التعاونُ الدولي.. ماءٌ أمْ سراب؟

02 أكتوبر 2018
+ الخط -
(1)
مقرّرات ما يسمّى التعاون الدولي، في مختلف مجالاته، صارت عرضةً لتقلبات سياسية من بعض الدول الكبرى، وأولها الولايات المتحدة الأميركية. المبادئ الرئيسية التي أسستْ أطر التعاون الدولي، وهياكله وأجهزته، رسخت عقودا طويلة، تعود بداياتها إلى الأعوام التي تلت طي صفحة الحرب العالمية الثانية في عام 1945. محور تلك المبادئ الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، بما يجنّب العالم مغبة الوقوع في حروبٍ أخرى، قد تفضي إلى دمار لا يبقي ولا يذر.
وعلى الرغم من مشاكسات فترة "الحرب الباردة"، والتجاذب بين القوتين العظميين، خلال العقود الأربعة التي تلت سنوات الحرب العالمية الثانية، إلا أن ذلك التجاذب شهد حروبا، كادت أن تعيد طبول الحرب إلى سابق دويّها. لكن صوت العقل طغى، فأمكن احتواء الحرب الكورية، كما أمكن احتواء حرب فيتنام، كأبرز مواجهات سنوات الحرب الباردة. وبقي التجاذب قائماً مستمراً، حول قضية الشرق الوسط الكبرى.
(2)
ثم يدخل العالم بكامل مجتمعاته، وبعد ثورة الاتصالات والمعلوماتية، إلى عقود العولمة .. شغلت المجتمع الدولي، قضايا برزت أهميتها وتأثيراتها، وتجاوزت حدود اهتمامات الدوله القُطرية. تعقّدت قضايا الثقافة والتعليم والصحة والبيئة والبحار والمناخ والانبعاث الحراري والطاقة، وشغلت الشعوب قبل الحكومات، وحازت اهتمام منظمات المجتمع المدني، قبل منظماته الرسمية. تلك ملفاتٌ صار تجاهل تبعاتها مما يهدّد السلم والأمن الدوليين. لعلك ترى أن حوار الشمال والجنوب التاريخي في سنوات السبعينات من القرن الماضي صار تاريخاً طويتْ صفحاته، وتجاوزه التنافس الدولي الماثل، والذي أسفر عن وجهٍ جديدٍ في سنوات العولمة، خرجت فيه النيات والمصالح من تحت عباءات الدبلوماسية، والكلام المنمّق في غرف المفاوضات، إلى الإفصاح الصريح عن الحرص على المصالح القُطرية، من دون أدنى التفاتٍ إلى القوانين التي ظلت تحكم "لعبة" التعاون الدولي عقودا طويلة. إنْ كانت لعبة التوازن قد
اختلّت بعد تساقط أطراف موسكو التي كانت عاصمة لأمبراطورية اسمها الاتحاد السوفيتي، فانتهت مصائرها، لتصير، في نظر الدولة الكبرى التي تقابلها، الطرف الأقلّ ندّية، بل صارت قطبا ضمن أقطاب أخرى عديدة.
حلّ في البيت الأبيض رئيسٌ من الحزب الجمهوري، يصرخ بشعار التحدّي وبالصوت العالي: "أميركا أولاً"، ولا يسمع في البرية غير صوته.
(3)
- لا تأبه إدارة دونالد ترامب لمنظمة اليونسكو، بل خرجت منها فأوقفت مساهمتها في موازنتها التي تصل إلى 25%، لتتركها عرضةً للشلل وضعف الفاعلية.
- لا تأبه الإدارة الأميركية لاتفاقية المناخ التي توافق المجتمع الدولي عليها في باريس عام 2015، وقبل ذلك في كيوتو عام 1997. هي الآن ترى أن على كلّ دولة قُطرية أن تتحمل مسؤوليتها.
- تعدّ الإدارة الأميركية للخروج من اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية (نافتا)، وهي تضم الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، وأشعل الرئيس الأميركي مشادّات كلامية وانفعالية مع الرئيس الكندي، ولم تعد الإدارة الأميركية ترى من جدوى لتكتلٍ هو، في أهميته، بمثابة المقابل الشبيه بالاتحاد الأوروبي.
- فيما يتّصل بالحد من انتشار الأسلحة النووية، يجنح الرئيس الأميركي إلى تجاهل الأذرع الدولية الفاعلة، ويميل، بعد إلغائه الاتفاقية المبرمة مع إيران واعتمدتها دول أخرى ذات وزن، إلى اتّباع سياسةٍ أحاديةٍ تعتمد العقوبات، لا التفاوض الإيجابي.
- فيما يتصل بقضية الشرق الأوسط، يتصرّف الرئيس الأميركي وكأنه الطرف الوحيد الذي يملك مفاتيح حلّ القضية الفلسطينية. يعترف بالقدس عاصمةً تحتضن سفارة بلاده في إسرائيل، ثم تقرّر إدارته طرد ممثلية فلسطين من واشنطن، وفي ظنه أنه يمارس سياسة العصا، بأمل أن يمدّ الجزرة بعدها. يتساءل المتابعون والعقلاء إن كان ساكن البيت الأبيض هذا مدركا، أو هو على بيّنةٍ من "أدبيات" قضية الشرق الأوسط، بكل تعقيداتها ومعارجها والتباساتها.
(4)
رجل يخاصم حلفاء دولته التقليديين، ثم يعطي ظهره ساخراً من معالجات المجتمع الدولي لمجمل القضايا الملحة والمعقدة التي تشغل بال شعوب العالم، ويهرب من استعصاءات أوضاعه الداخلية، يريد أن يغيّر قوانين اللعبة في الساحة الدولية، بل يستهدف، بسلوكياته الانفرادية، خلخلة أسس التعاون الدولى ومبادئه الراسخة عقودا خلت.
لا أحد يزعم أن أطر التعاون الدولي وهياكله غير قابلة للجرح أوالتعديل، أو إعادة الضبط، لكن من يروّج نهاية العولمة بأسلوب فوضوي، ويعمل على إعلاء المصالح القومية، بالحسم من مفاهيم التعاون الدولي، وبما قد يخلخل من مصالح غيره، لهو ساعٍ إلى صياغة مجتمع دولي، مفكّكة أوصاله، مشتّتة شعوبه، ومضعضعة إرادته.