تبدي القيادة الإسرائيلية حرصاً كبيراً على الظهور بمستوى كبير من الثقة بالنفس وهي تواصل تطبيق استراتيجية "حافة الهاوية" بمواجهة إيران في سورية، التي لا تهدف فقط إلى تجريد طهران من القدرة على مراكمة النفوذ العسكري هناك، بل ترمي أيضاً إلى تقليص قدرتها وقدرة حلفائها على الاستفادة من عوائد الانتصار الذي حققوه في الصراع الداخلي في سورية.
إلى جانب ذلك، فإن هناك ما يدل على أنّ زيادة وتيرة ضرب الأهداف الإيرانية داخل سورية، والتي جاءت بعد مزاعم تل أبيب بسيطرة الموساد على الأرشيف النووي الإيراني، وقرار ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي واستئناف فرض العقوبات الاقتصادية على طهران، تهدف إلى إضعاف نظام الحكم في طهران وإهانته وإحراجه بشكل قد يفضي إلى إيجاد بيئة تساعد على إحداث تحوّلات تؤثر سلباً على استقراره، وصولاً إلى سقوطه.
وتجسّدت مظاهر الثقة بالنفس التي حاولت تل أبيب إظهارها، في سماح الرقابة العسكرية الإسرائيلية لوسائل الإعلام في تل أبيب، بالإشارة بشكل مباشر إلى مسؤولية إسرائيل عن الغارة التي استهدفت الليلة الماضية منطقة "الكسوة" جنوب دمشق، وكذلك توجّه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لزيارة موسكو، على الرغم من التوتر الذي أعقب الغارة وقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي.
وعلى الرغم من الإجراءات العسكرية الاحتياطية التي أقدمت عليها إسرائيل بعيد إعلان ترامب وتنفيذ الغارة جنوب دمشق، إلا أنّ القيادة الإسرائيلية حاولت تكريس انطباع مفاده أنها تستبعد رداً عسكرياً إيرانياً جدياً على سلسلة الغارات. وتستند الثقة الإسرائيلية إلى تقديرات قدمتها هيئة أركان الجيش الإسرائيلي، يوم الثلاثاء، إلى المجلس الوزاري المصغّر لشؤون الأمن، رجّحت أن إيران غير معنية بمواجهة شاملة مع إسرائيل. وحسب هذه التقديرات، فإنه يمكن لإيران فقط أن ترد عسكرياً بشكل لا يترك أثراً يدلّ على مسؤوليتها عن العمل، أو من خلال الطلب من المليشيات الشيعية الموجودة في سورية إطلاق صواريخ عدة على إسرائيل.
وتعطي تل أبيب الانطباع بأنّ نفوذها الاستخباري وقدراتها في مجال التغطية المعلوماتية داخل سورية، تسمح لها بإحباط أي مخطط إيراني للرد على الهجمات الإسرائيلية. وعلى الرغم من أنه من الصعوبة بمكان التحقّق من دقّة المزاعم الإسرائيلية بأن الغارات التي نفذت مساء الثلاثاء على جنوب دمشق، وتلك التي نفذت قبل أسبوعين على ريفي حلب وحماة، جاءت لتدمير صواريخ باليستية أعدّت للاستخدام في الرد على الهجمات الإسرائيلية، فإنه من غير المستبعد أن تكون إسرائيل قد شنّت هذه الغارات فقط من أجل ضرب الإمكانيات العسكرية التي يمكن أن تستخدمها طهران في الرد على الهجمات، بدون أن يكون لديها معلومات مسبقة بالفعل حول مخططات طهران. فإسرائيل تنطلق من افتراض مفاده أن إيران غير معنية باندلاع مواجهة معها، على اعتبار أن مفاعيل الجهد الحربي لتل أبيب يمكن أن تفضي إلى إبعادها نهائياً عن سورية، مع العلم أن طهران استثمرت مقدرات هائلة في سعيها لتكريس هذا الوجود.
إلى جانب ذلك، فإن إسرائيل تراهن على مخاوف إيران من إمكانية أن تقدم تل أبيب وواشنطن على توظيف أي مواجهة واسعة في سورية، في تبرير توجيههما ضربة قاصمة للمشروع النووي الإيراني.
ومما لا شك فيه أن الموقف الروسي يعدّ من أكثر العوامل التي تحفز إسرائيل على مواصلة التصعيد ضد إيران في سورية. فموسكو لم تلتزم فقط الصمت في أعقاب الهجمات التي طاولت الأهداف الإيرانية في ريفي حلب وحماة وجنوب دمشق، بل إن هذه الهجمات لم تحل دون إقدام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على دعوة نتنياهو لزيارة موسكو للمشاركة في احتفالات عرض النصر الذي احتضنته موسكو أمس الأربعاء. ناهيك عن أنه لم يصدر أي تعقيب روسي على سلسلة التهديدات الطويلة التي أطلقها الزعماء الإسرائيليون بمواصلة مهاجمة إيران في سورية.
وفي سعيها لمحاولة تقليص فرص استفادة إيران من منظومات تحالفاتها الإقليمية، فقد عمد الساسة الإسرائيليون بشكل منسق لإطلاق تهديدات ترمي إلى ردع حلفاء طهران عن الانخراط في أي جهد حربي للرد على الغارات الإسرائيلية. فقد هدد وزير التعليم الإسرائيلي نفتالي بينيت مساء الثلاثاء بـ "تخريب" إيران تماماً، في حال شارك "حزب الله" في أي عمل عسكري ضد إسرائيل، في حين هدد وزير الطاقة، يوفال شتاينتز، بتصفية رئيس النظام السوري بشار الأسد في حال انفجرت مواجهة مع إيران على الساحة السورية.
وترى إسرائيل أنه على الرغم من انتهاء موسم الانتخابات اللبنانية، فإنه لا يوجد لدى "حزب الله" مسوّغ للانخراط في أي تحرك عسكري يمنح إسرائيل المسوغات لضرب إيران، مما سيؤدي إلى إحراج حلفائه الداخليين ومنح خصومه وقوداً لمهاجمته.
وكذلك، وعلى الرغم من تجنّب إسرائيل توجيه أي تهديدات لحلفاء إيران في الساحة الفلسطينية، إلا أنّ تل أبيب تنطلق من افتراض مفاده أن هؤلاء الحلفاء، ولاسيما حركة "حماس"، غير معنيين، في هذه المرحلة، بأي مواجهة مع إسرائيل، إذ إن هذه الأطراف تراهن على دور حراك مسيرات العودة في إحداث تحوّل يفضي إلى تحسّن بيئة الصراع.
وفي السياق ذاته، كشف محلل الشؤون العسكرية في صحيفة "هآرتس"، عاموس هارئيل، في تقرير له أمس، أنّ نتنياهو ينسّق مع ترامب خطواته التصعيدية ضد إيران، بحيث تمهّد هذه الخطوات لانهيار نظام الحكم في طهران. وعلى الرغم من أن هارئيل لم يقدّم تفاصيل حول خفايا التنسيق بين ترامب ونتنياهو، إلا أنّه رجّح أن كلاً من تل أبيب وواشنطن تراهنان على دور العقوبات الاقتصادية التي ستفرض على طهران في أعقاب الانسحاب من الاتفاق النووي ووقع الإهانات والإحراج الذي تعرّض له النظام في أعقاب سيطرة الموساد على الأرشيف النووي وتواصل الغارات في سورية، في الدفع نحو إضعاف نظام الحكم الإيراني.
لكن مظاهر الثقة التي تحاول القيادة الإسرائيلية إبرازها في مواجهة إيران، تخفي خلفها أيضاً حالة من انعدام اليقين، إزاء تبعات استراتيجية "حافة الهاوية". فالنظام الإيراني الذي يرى أن أحد أهم مصادر شرعيته تكمن في مواجهة إسرائيل، لا يمكنه غضّ الطرف عن الإهانات التي توجّه له على هذا النحو، مما يزيد من فرص إقدامه على توجيه ضربة لإسرائيل، على الرغم من المحاذير التي ترى تل أبيب أن هذا النظام يأخذها بعين الاعتبار. وتدلّ الإجراءات العسكرية الاحتياطية التي اتخذتها سلطات الاحتلال الثلاثاء على أنه، بخلاف الانطباع الذي تحاول تل أبيب تكريسه، فإنها تتخوّف بشكل جدي من ردة فعل إيرانية.
إلى جانب ذلك، فإن تعاظم وتيرة التهديدات لـ"حزب الله" والدولة اللبنانية، تدلّ على جدية المخاوف الإسرائيلية من إمكانية اندلاع مواجهة يشارك فيها الحزب. ولا خلاف في إسرائيل على أن مشاركة "حزب الله" في أي مواجهة ضد إيران في المنطقة، يمثّل تهديداً استراتيجياً للعمق الإسرائيلي. ومما يزيد الأمور تعقيداً أن دراسة لـ"مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي" صدرت يوم الجمعة الماضي، لفتت إلى أنّ الجبهة الداخلية الإسرائيلية غير جاهزة لمواجهة تبعات حرب مع "حزب الله" بسبب ترسانة الصواريخ التي يملكها.