بعلبك في قلب العدوان الإسرائيلي: محو للتاريخ وضغط على بيئة المقاومة

31 أكتوبر 2024
قصف إسرائيلي في محيط قلعة بعلبك الأثرية، 21 أكتوبر 2024 (نضال صلح/فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- انضمت بعلبك إلى قائمة الأهداف الإسرائيلية في العدوان على لبنان، حيث تسببت الغارات في سقوط ضحايا مدنيين ونزوح الآلاف، مع ادعاءات بضرب بنى حزب الله العسكرية.
- استهداف بعلبك يحمل أبعاداً سياسية وأمنية، حيث تسعى إسرائيل لتهجير البيئة الشيعية وقطع الإمدادات العسكرية لحزب الله، مما يعكس مخططاً لتدمير البنية العسكرية وفرض حصار على المقاومة.
- بعلبك، ذات القيمة التاريخية والثقافية، تُستهدف لتدمير الهوية الدينية والثقافية للبنان، حيث يسعى الاحتلال لمحو تاريخ المدن وضرب الذاكرة الجماعية.

انضمّت مدينة بعلبك إلى الأهداف الإسرائيلية الجديدة في العدوان الموسَّع على لبنان تنفيذاً لسياسة الأرض المحروقة ومخطّط التدمير والتهجير الممنهج، واستهداف هويات المناطق وتاريخها وذاكرة السكان الجماعية، وذلك كلّه مع تلطّي إسرائيل خلف مزاعم ضرب البنى التحتية العسكرية لحزب الله، في حين أنّ غالبية المتضرّرين أو الشهداء والجرحى من الغارات هم نساء وأطفال.

وأُدخل قلب مدينة بعلبك، أمس الأربعاء، للمرّة الأولى إلى بيانات أوامر الإخلاء العاجلة التي تصدر عن المتحدث باسم جيش الاحتلال، علماً أنّ سلسلة مجازر ارتُكبت يوم الاثنين على صعيد المحافظة، أسفرت عن سقوط أكثر من 80 شهيداً وجرح ما يزيد عن 180 شخصاً، من دون خروج أيّ تحذيرات، علماً أنّه في أحيانٍ كثيرة تتضمَّن خرائط مضلّلة، وبمهلٍ "خدّاعة" وغير كافية لخروج الناس من منازلهم باتجاه أماكن أكثر أماناً.

وأمر المتحدث باسم جيش الاحتلال أمس بإخلاء بلدتي عين بورضاي ودورس، مشيراً بدائرة حمراء موسّعة إلى مدينة بعلبك، بما فيها الآثار الرومانية والقلعة التي أُدرجت على قائمة مواقع التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) في ثمانينيات القرن العشرين، ودور العبادة، الأمر الذي أثار هلع السكان، وأدى إلى نزوح عشرات الآلاف، وسط ظروف تنقّل صعبة وخطرة، إلى مناطق لا تزال تُعد آمنة "نسبياً" في البقاع، خصوصاً دير الأحمر، وزحلة، وعرسال، والشمال، رغم أنّ مراكز الإيواء فيها بلغت قدرتها الاستيعابية القصوى.

جوانب عدّة يمكن التوقف عندها عند الحديث عن أهداف إسرائيل من ارتكاب مجازر في محافظة بعلبك الهرمل، بعضها ما هو مطبَّق في لبنان ككلّ، في إطار المخطّط السياسي الأمني الثقافي الديني المذهبي والحضاري.

أبعاد استهداف بعلبك أمنياً وسياسياً

وهنا تقول الكاتبة والباحثة السياسية د. حياة الحريري لـ"العربي الجديد"، إنّ "استهداف بعلبك له أكثر من بُعد. البعد السياسي والأمني، إذ وفق المخطط الذي حُكي عنه منذ بداية الحرب، هناك استهداف لحزب الله، وعملية تهجير ممنهجة للبيئة الشيعية، وهو ما يظهر من خلال المناطق ذات الأكثرية الشيعية التي تنتمي أو تُعتبر من بيئة الحزب، سواء في الجنوب أو البقاع أو بعلبك أو الضاحية الجنوبية لبيروت، أو حتى في مناطق كسروان وتلك الجبلية".

وتشير الحريري إلى أنّ "ما يعمل على تطبيقه العدو اليوم في بعلبك هو نفسه المخطط المطبق في الجنوب، بتحويله إلى منطقة غير قابلة للحياة بشكل يمنع عودة أهاليها إليها، وذلك من خلال عمليات التفخيخ والتفجير لمربعات سكنية وقرى وبلدات بأكملها، فالمشروع الإسرائيلي يريد تفريغ المناطق الحدودية التي تعتبر بشكل خاص معادية لإسرائيل، وفق حساباتها، لأنّ كل لبنان معاد لها، وتحويلها إلى مناطق عازلة أو لإدخال قوات متعددة الجنسيات تحت الفصل السابع إليها أو لأهداف أخرى"، متوقفة أيضاً عند "الجغرافية السياسية للمناطق، سواء الجنوب على حدود فلسطين المحتلة أو بعلبك على الحدود الشرقية مع سورية، وهذه لها رمزيتها، وتعني ما تعنيه من عمليات الخطر الكبير القائم بعمليات الفصل والتقسيم التي يمكن أن تحدث بالمنطقة".

وتضيف الحريري "بعلبك اليوم حسب التصنيف أو الرمزية للحزب هي خزان المقاومة في لبنان، وبحسب المشروع الإسرائيلي وحتى الأميركي، فهي تضمّ مخازن أسلحة ومصانع تصنيع المسيّرات ومراكز تدريب لعناصر الحزب، واستهدافها يندرج بالنسبة إلى العقلية الإسرائيلية في إطار تدمير البنية العسكرية للحزب، علماً أنهم انتقلوا في الأيام الماضية، وبحسب قولهم، من مرحلة تدمير البنية العسكرية لحزب الله إلى مرحلة التدمير، وهو ما نراه بطريقة الاستهدافات والتفخيخ والتفجير خصوصاً في الجنوب واليوم في بعلبك".

كما أنه بحسب المخطط الإسرائيلي، تقول الحريري فإنّ "بعلبك بالنسبة إلى الاحتلال تُعتبر طريق إمداد عسكري مع سورية، فهي تقع على الحدود الشرقية مع الأراضي السورية، لذلك يريدون قطع الإمدادات عن المقاومة ومحاصرتها وفصل الخط بين سورية ولبنان، ولأجل ذلك تم استهداف المعابر الحدودية، أبرزها المصنع، وخرجت دعوات إسرائيلية لقطعها أو نشر قوات دولية فيها". وتلفت الحريري إلى أنّ "بعلبك استُهدفت كثيراً عبر التاريخ، حتى القديم، وعرفت حروباً كثيرة وفتوحات، لذلك كانت هوية المدينة تتغير، وكذلك دورها السياسي في لبنان والمنطقة، وقد استهدفت أكثر من مرة في حرب يوليو/ تموز 2006، لكن حرب اليوم هي الأعنف على المنطقة، خصوصاً بشكل وطبيعة الاستهدافات، التي تظهر مخططاً يتجاوز تقليب البيئة الشيعية على حزب الله، إنما أيضاً تهجيرها وقتل كل مقومات الحياة في المدينة وجعل العودة إليها والسكن وحتى الزراعة فيها أمراً صعباً جداً".

استهداف هوية لبنان الدينية والثقافية والحضارية 

ولا بدّ أن تتوقف الحريري عند بعلبك "مدينة الشمس"، ذات الرمزية والقيمة التاريخية، فهي تعتبر أولاً من المناطق التي تُعد أيقونة الآثارات في لبنان، وتتمتع بأهمية معمارية وأثرية، فقد كانت عبر التاريخ والحضارات مركزاً للحركة التجارية والثقافية بين الشرق والغرب، وأيضاً مركزاً دينياً في الحضارات القديمة، وخاصة العصر الروماني، لا بل كانت تُعتبر من أهم المراكز الدينية بعد روما الإيطالية في العصور القديمة.

وتُعدّ أيضاً قلعة بعلبك من المواقع الأثرية المدرجة في قائمة التراث العالمي لليونسكو عام 1984، وهي بحسب المنظمة إرث حضاري للإنسانية جمعاء، وقد عُرِفت هذه المدينة الفينيقية، حيث كانت العبادة للثالوث الإلهي، بمدينة الشمس في العهد الهيلنستي، وحافظت على دورها الديني، حيث جذب معبد جوبيتير، إله الشمس، حشود الحجّاج، فبعلبك بمبانيها الضخمة من أهم آثار الهندسة الرومانية الإمبراطورية.

وتشير الباحثة والكاتبة اللبنانية إلى أن "بعلبك تعني الفينيقيين، والرومان، والبيزنطيين، والسلاجقة، والأيوبيين، والصليبيين، والمغول، والمماليك، والعثمانيين. فهذه حضارات كلها عرفتها بعلبك وكان لها دور بالمدينة، سواء على المستوى الثقافي، أو التجاري، أو الديني، أو المعماري، أو الحضاري".

تبعاً لذلك، ترى الحريري أن استهداف بعلبك يندرج أيضاً في إطار استهداف هوية لبنان وتاريخه، فالاحتلال لا يسعى فقط إلى ضرب الحجر، وبشكل عرضي، بل يريد وعلى مرّ التاريخ، تدمير كلّ ما له علاقة بالهوية الدينية والثقافية والحضارية بكل دولة يدخل إليها، وهو ما نراه اليوم بقصف الجوامع، والكنائس، والأسواق القديمة، والمعالم التاريخية، والثقافية، والتراثية، من هنا فإنه ينتهج تدمير المدن لمحو تاريخها وضرب الذاكرة الجماعية للناس.

وتردف الحريري قائلة "صحيح أنّ بعلبك لها رمزية باعتبار أن أكثرية سكانها من بيئة الحزب الشيعية، لكن فيها أيضاً تنوّعاً طائفياً ومذهبياً، وعرفت حروباً وصراعات عدّة على مرّ التاريخ القديم والحديث، ولكن بعد كل استهداف، كانت تعود لتقف على قدميها وتسترجع حيويتها ودورها الثقافي والسياحي، وتبعث بذلك رسالة قوة وحياة وحرية وأمل وبقاء وتمسّك بالأرض".

المساهمون