استعراض التجارب العالمية المتعدّدة في "موسيقى البوب" يكشف أن السر في تربّعه على عرش الموسيقى من حيث النجاح المادي والجماهيري لا يقف عند تفسير واحد. يُشاع أنّ عالم البوب يضيق بالجديد، ويركن إلى الصيغ التقليدية مضمونة النجاح، عبر وصفات موسيقية جاهزة، يعرفها صانعو الموسيقى ويتقنون قولبة الأغنية داخلها، ليخرج منتجاً معلّباً يعرف طريقه إلى المستمع عبر مغازلة اعتياده وذاكرته التي يعاد إنتاج محتواها.
الكلام ظاهره منطقي، ولكنه يحمل كثيراً من اليقين المشكوك في أمره. يبدو لنا أنّ نجاح البوب ليس فقط في الصيغة التي استقر على تثبيتها، بل أحياناً العكس، إذ كانت موسيقى البوب دوماً الوعاء الذي يستوعب جديد التيارات الموسيقية، ويفتح لها أبوابه، حتى تمرّ من خلاله لآذان الجماهير الواسعة.
منتجو البوب كانوا دائماً منتبهين إلى ما يجري حولهم. لم يعترفوا أبداً بالحواجز التي تفصل موسيقى "راقية" أو "تجريبية" أو "جديدة" عن مجالهم. استوعبوا الجاز والروك البديل والكانتري والهيب هوب والموسيقى الإلكترونية.
استوعبوا دمج التجارب وفتحوا هامشاً لـ"موسيقى العالم" وآفاقها المحلية. لذلك يصبح إطلاق الكلام عن استعصاء الأسواق التجارية على التجارب الجديدة حُكماً مرسلاً لا يتوخّى كثيراً من الدّقة.
نستطيع القول بقلب مطمئن إن سوق موسيقى البوب العربي أحد تلك الأسواق الراكدة، بل المتعطّلة والفقيرة بامتياز غير مسبوق عن مثيلاتها. فإذا تحدثنا عن الدورة الزمنية القصيرة التي تمتاز بها سوق البوب الباحثة بجنون عن الجديد، نجد أننا مثال لكل ما هو عكس ذلك، مثال للدورة الزمنية الطويلة، الطويلة جداً، التي يتربّع فيها فنان/ة أو نمط موسيقي لعقود على عرش النجاح الجماهيري.
إيقاع المقسوم "الواحدة ونص" الذي يمتلك القلوب والأجساد والآذان والذاكرة هو طريق كل تلك التجارب التي طال زمنها، وهو الصيغة الموسيقية الوحيدة المعتمَدة جماهيرياً، وكل ما يجاوره هامشي ومؤقت، لا يدوم تجارياً ولا يتطور فنياً.
لعل الدلالة واضحة في قبول السوق لدينا بالتنوع، قبولها بخوض تحدي تجديد وإنعاش ذاكرة المستمع العربي، الذي تعرف ثقافته الشعبية إيقاعات لا حصر لها شديدة الغنى والتأثير، حتى بمقياس تحريك الجسد والرقص.
البوب العربي أزمته في ثباته، في تجاهله لكل ما يدور حوله.لقد ضاعت أعمار وتجارب كثير من الموسيقيين العرب في محاولة كسر هذا الثبات، ثم تأتي صيغة ما على إيقاع المقسوم؛ لتعيدنا دورةً بعد أخرى إلى المكان نفسه.
لكل الشعوب إيقاعات تتملكها وتسيطر على وجدانها، ليس هذا في حد ذاته عيباً، العيب أن يكون هذا الإيقاع ضحية لفقرنا حتى في الاشتغال عليه والاشتغال به، ضحية مثله مثل مقام الكرد الذي صار من فرط إعادة تدويره مثالاً للرتابة. أكاد أقول إننا نقتل موسيقانا بيدينا وليس بيد البوب.