05 نوفمبر 2024
الانتخابات اللبنانية: حُلُم الورقة البيضاء
وكنتُ في حُلُمي، في لبنان، واقفةً في طابورٍ طويل، إلى جانب طوابير أخرى، في وقت بدا وقتَ غروبٍ، إذ تلوّن بشيء من الحُمرة وببقايا نورٍ آيلٍ إلى غياب. وكنّا في الطابور، رجالا ونساء وأطفالا، متعبين، ننتظر وقوفا منذ ساعات طوال، أن نبلغ ذلك الركن البعيد الذي يتحلّق من حوله عددٌ من موظفين يرتدون بدلات رسمية وربطات عنق بألوان سوداء أو داكنة، ومن ورائهم جنود يحملون بنادق يلتمع معدنها في الغسق، معتمرين قبعاتٍ من فرو أسود، جامدين، لا يتنفّسون ولا يرمشون.
وإذ تململتُ قليلا محاولة الخروجَ من الصفّ لضيقٍ جثم على صدري، ومنعني من التنفّس بارتياح، أنا التي لا أحتمل الأماكن الضيقة أو المحصورة أو مكتظة الحضور، سمعت صوتا مقتضبا صفر فوق رأسي، كما حين يقع إناءُ زهورٍ متوسط الحجم، اصطدمت به ستارةٌ حرّكها الهواء، فوق طاولةٍ من زجاج، مصدّرا صوت "تك"، من غير صدىً، أو عمقٍ، أو ارتجاج، هكذا قيل لي إنّ الرصاصة الصافرة عبرت فوق رأسي، لكي تنبهني إلى ضرورة الدخول في الصف من جديد، وإلا.
ولكي أداوي شعوري بالاختناق، دُرت ذات اليمين، فرأيت تلالا من اللوائح المستطيلة مملوءةً حبرَ طباعة أسود. وحين تمعّنت فيها، وجدتها لوائح لأسماء أمامها مربّعاتٌ تدعوك إلى ملئها بقلم حبر أو رصاص. وإذ أقول تلالا، فإني بالفعل أعني تلالا، بما يقارب جبالا متواضعة الارتفاع، ممتدّة إلى ما لا نهاية في سهل منبسط، ساكن، لا تلاعبه ريحٌ ولا يقلقه ضجيج. وعندما سئمتُ المنظر المتكرّر إلى ما لا نهاية، استدرتُ يسارا، فإذا بي أمام سهلٍ آخر مغمور بالماء، طبقة رقيقة من الماء الجاري لا تعدو بضع سنتمترات، تتزحلق فوقه أسماك فضية بحجم متوسط، فتبدو لوهلةٍ كأنها سهام متحرّكة، تشير إلى اتجاه ما، قبل أن تتجه إليه، وتختفي فيه.
تلفّتُ من حولي، علّني أتقاسم رؤياي هذه وأحدهم، فلم أعثر على عيونٍ في الوجوه المحيطة بي، ولم أعثر فيها على أفواه، أو آذان، فإذا بي أمام ملايين الوجوه، بيضاء فارغة من ملامحها، متكرّرة ومصطفة ومتكاثرة، تفصلها عن الأجساد المألوفة ياقاتُ قمصانٍ بيضاء هي الأخرى، إنما من دون خيطان وأزرار.
تقدّم الطابور بعد طول انتظار، فمشينا جميعا بترتيب، الخطوة تلو الأخرى، على قرع طبول بعيدة جدا، كانت قادمةً من غابٍ وراء الغاب الذي وراءه غاب، ولا نراه، بل ندرك فقط أنه هناك، في مكانٍ ما. كنا، نحن المتقدّمين في إيقاع يشبه إيقاع المآتم والجنازات، نرفع أيادينا اليمنى عند مستوى صدورنا، قابضين بأصابعنا المتوتّرة على أوراق بيضاء، بدا أنها، لسبب ما، بمثابة هويّاتنا التي نعزّ وعليها نخشى من التلف والضياع. يتقدّم الذي في رأس الطابور، واضعًا ورقته البيضاء في صندوق اقتراعٍ زجاجيّ عملاق، ثم ينزل درجا يخفيه عن أبصارنا، فلا ندري بعد ذاك ما هو مآله، أو إلى أين صار. ومع ذلك، نتنفّس الصعداء، كلّما انتقص عددُنا، وقصر طولُ طابورنا، وتزايدت في الصندوق أوراقُنا البيضاءُ التي تقول عنّا الكثير بين سطورها البيضاء، وتخبر عن خيباتنا، وخساراتنا، ومواتنا الذي طال، وما عدنا نحسب له أيّ حساب.
وحين جاء دوري، وأصبحت على مرمى خطوات من تلك الغرفة الزجاجية التي خلتها صندوقا من البعيد، ألقيت ورقتي البيضاء عبر نافذتها المستطيلة، وكنت قد حرصتُ على ألا تحمل أيّ ذرة غبارٍ يُساء تفسيرُها، أو يُصار إلى تأويلها بغير ما أردت، فمسحتها، ومسحتها، ونفخت عليها، ونفخت حولها، وحين تيقّنت أنها باتت ناصعةً، واضحةً، لا لبس فيها، ألقيتها، وخرجت من الطابور، وأنا أنظر إليها وأراها تنزلق فوق أكوام الورقات البيضاء الأخرى التي سبقتني، حتى استقرّت مائلةً بين ورقتين، فابتسمت لها، وابتسمت لنفسي، وصحوتُ.
حين استفقتُ من منامي ذاك، آسفةً، قلت هذا حلم لبنانيّ بامتياز، أن أرى شعب لبنان كلّه، يوما، يقترع لممثّليه ونظامهم، بورقةٍ هيفاءَ بيضاء.
وإذ تململتُ قليلا محاولة الخروجَ من الصفّ لضيقٍ جثم على صدري، ومنعني من التنفّس بارتياح، أنا التي لا أحتمل الأماكن الضيقة أو المحصورة أو مكتظة الحضور، سمعت صوتا مقتضبا صفر فوق رأسي، كما حين يقع إناءُ زهورٍ متوسط الحجم، اصطدمت به ستارةٌ حرّكها الهواء، فوق طاولةٍ من زجاج، مصدّرا صوت "تك"، من غير صدىً، أو عمقٍ، أو ارتجاج، هكذا قيل لي إنّ الرصاصة الصافرة عبرت فوق رأسي، لكي تنبهني إلى ضرورة الدخول في الصف من جديد، وإلا.
ولكي أداوي شعوري بالاختناق، دُرت ذات اليمين، فرأيت تلالا من اللوائح المستطيلة مملوءةً حبرَ طباعة أسود. وحين تمعّنت فيها، وجدتها لوائح لأسماء أمامها مربّعاتٌ تدعوك إلى ملئها بقلم حبر أو رصاص. وإذ أقول تلالا، فإني بالفعل أعني تلالا، بما يقارب جبالا متواضعة الارتفاع، ممتدّة إلى ما لا نهاية في سهل منبسط، ساكن، لا تلاعبه ريحٌ ولا يقلقه ضجيج. وعندما سئمتُ المنظر المتكرّر إلى ما لا نهاية، استدرتُ يسارا، فإذا بي أمام سهلٍ آخر مغمور بالماء، طبقة رقيقة من الماء الجاري لا تعدو بضع سنتمترات، تتزحلق فوقه أسماك فضية بحجم متوسط، فتبدو لوهلةٍ كأنها سهام متحرّكة، تشير إلى اتجاه ما، قبل أن تتجه إليه، وتختفي فيه.
تلفّتُ من حولي، علّني أتقاسم رؤياي هذه وأحدهم، فلم أعثر على عيونٍ في الوجوه المحيطة بي، ولم أعثر فيها على أفواه، أو آذان، فإذا بي أمام ملايين الوجوه، بيضاء فارغة من ملامحها، متكرّرة ومصطفة ومتكاثرة، تفصلها عن الأجساد المألوفة ياقاتُ قمصانٍ بيضاء هي الأخرى، إنما من دون خيطان وأزرار.
تقدّم الطابور بعد طول انتظار، فمشينا جميعا بترتيب، الخطوة تلو الأخرى، على قرع طبول بعيدة جدا، كانت قادمةً من غابٍ وراء الغاب الذي وراءه غاب، ولا نراه، بل ندرك فقط أنه هناك، في مكانٍ ما. كنا، نحن المتقدّمين في إيقاع يشبه إيقاع المآتم والجنازات، نرفع أيادينا اليمنى عند مستوى صدورنا، قابضين بأصابعنا المتوتّرة على أوراق بيضاء، بدا أنها، لسبب ما، بمثابة هويّاتنا التي نعزّ وعليها نخشى من التلف والضياع. يتقدّم الذي في رأس الطابور، واضعًا ورقته البيضاء في صندوق اقتراعٍ زجاجيّ عملاق، ثم ينزل درجا يخفيه عن أبصارنا، فلا ندري بعد ذاك ما هو مآله، أو إلى أين صار. ومع ذلك، نتنفّس الصعداء، كلّما انتقص عددُنا، وقصر طولُ طابورنا، وتزايدت في الصندوق أوراقُنا البيضاءُ التي تقول عنّا الكثير بين سطورها البيضاء، وتخبر عن خيباتنا، وخساراتنا، ومواتنا الذي طال، وما عدنا نحسب له أيّ حساب.
وحين جاء دوري، وأصبحت على مرمى خطوات من تلك الغرفة الزجاجية التي خلتها صندوقا من البعيد، ألقيت ورقتي البيضاء عبر نافذتها المستطيلة، وكنت قد حرصتُ على ألا تحمل أيّ ذرة غبارٍ يُساء تفسيرُها، أو يُصار إلى تأويلها بغير ما أردت، فمسحتها، ومسحتها، ونفخت عليها، ونفخت حولها، وحين تيقّنت أنها باتت ناصعةً، واضحةً، لا لبس فيها، ألقيتها، وخرجت من الطابور، وأنا أنظر إليها وأراها تنزلق فوق أكوام الورقات البيضاء الأخرى التي سبقتني، حتى استقرّت مائلةً بين ورقتين، فابتسمت لها، وابتسمت لنفسي، وصحوتُ.
حين استفقتُ من منامي ذاك، آسفةً، قلت هذا حلم لبنانيّ بامتياز، أن أرى شعب لبنان كلّه، يوما، يقترع لممثّليه ونظامهم، بورقةٍ هيفاءَ بيضاء.