يكتب الروائي عن حدثٍ محدود، بالمقارنة مع عالم يعجّ بالأحداث الغريبة، الحقيقية والملفّقة، فلبعض البشر طاقة عجيبة على فعل الشر. قد نحتار من أين لهم القدرة على ابتكار تنويعات منه، والتفرّد فيها إلى حدّ الجنون.
في مطالعتنا لصفحات الجريمة والمنوعات وأخبار قادة العالم ومعهم نجوم المال والأعمال والسينما، لربما اعتقدنا أن العالم يختلق حياة أخرى من الأكاذيب، خاصة أن الحقائق مزعجة، بينما الأوهام تدفع عنّا الملل، فللجرائم طابع لا يخلو من الإثارة، لأن مادّتها البشاعة.
أما ادعاءات العظمة والفضائح فأكثر من أن تحصى، بينما حروب العالم في المقدمة، دونما تمييز بين بلدان أفريقيا وآسيا، أو أميركا اللاتينية و"الشرق الأوسط"، وكأنها هي التي تصنع حروبها، تستدرجها من خزّان لا ينضب من الفظائع، أو أنها صناعة محلية تستنسخها من التاريخ.
الذي لم يُعمل حسابه، وهو الأكثر توقّعاً، أنه من فرط اتّساع ساحات الموت، وارتفاع أرقام الضحايا، طاول السأم صانعي الحروب ومتابعيها، بعدما استُنفدت الجرائم العاديّة والوحشية، بحيث أنها لم تترك للمجرمين المحترفين جديداً يقترفونه، وبرهنت على حقيقة فجّة، إنه من الممكن تحويل دول عادية تشكو من التعثّر في التقدّم، إلى دول تعاني من أمراض رجعيّة مستفحلة.
ما يُعطي الحدث الروائي تميّزه، ليس في ما يُضفيه الخيال، ولا سبر الواقع، أو قوّة التعبير عنه فقط، بل في تجاوز الحدث نفسه، فلا يبقى منه سوى أنه المحرّض على الانطلاق في مجاهل غابات النوازع البشرية المُنحرفة، والتشابك الغامض والمدمّر للعلاقات الإنسانية... يكتسب الحدث نوعيته من زاوية النظر إليه، بما يكشف عن تعدّد أبعاده، ما يأخذنا إلى الجوانب الخفيّة، لتصادم الرغبات المتناقضة في السيطرة على البشر.
لا تأتي الرواية بجديد غالباً، لكنها متورّطة بالعالم كله، وكثيراً ما أعلنت تشاؤمها، وأيضاً إفلاسها من عدم قدرتها على إصلاح ما لا يصلح، فهي تُقرأ للتسلية والمتعة، وهكذا أصبح الروائيون يكسبون بعض المال من قصص الحب والغرام، والشكوى من الكآبة والاغتراب، بينما هناك رحلة إلى الأعماق، يجهلها الكاتب، ويجرّبها خلال الكتابة، في محاولة للإجابة عن سؤال، لماذا يعيد الإنسان في كل زمن صياغة ما يبرّر الجريمة، وما يسوّغ الخيانة والفجور... ما يمنح الظلم والظلام وسائل الانتشار في العالم؟
زمن الكتابة، ليس الوقت الذي تستغرقه الكتابة على بياض الورق. إنه زمن الخوض في أنموذج مصغّر للحياة، والبحث في الأسباب والذرائع لعالم لا يختلق غموضه إلا من غموض دوافعه.
يتوقّع الكاتب الكثير، لكن الواقع والخيال يهبانه القليل. وهذا القليل لا يساعد الرواية على شقّ طريقها، إلا بانتزاع حريّة القول والتفكير من سلطات لا توفّر وسيلة في قمعها، ربّما أصبح لدينا رواية.
لا يستطيع الروائيون تجنّب الحريّة، وإلا كتبوا رواية واحدة، لا تحتاج حتى لقارئ واحد.