الأنظمة الفاشلة ونموذج داعش

09 يوليو 2014

آثار هجوم للجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر (يونيو/1998/أ.ف.ب)

+ الخط -

بعيداً عن التفسير التآمري للتاريخ، يمكن القول إنه لم يكن من باب المصادفة، إطلاقاً، أن يظهر نموذج داعش في سورية والعراق، فالجغرافيا السياسية للمنطقة، والتطورات الحاصلة على مستويات شتى، لم تكن لتفضي إلى غير مثل هذه التشوهات التنظيمية التي تتجانس مع البيئة الحاضنة لها، والتي أمدتها بأسباب الولادة والبقاء، ثم الانتشار، ويمكن اختصار جملة هذه العوامل في ملامح كبرى، وتتمظهر على النحو التالي:
ـ تميز كل من العراق وسورية بهيمنة نظامين مغلقين، لم يعترفا يوماً بالتعددية الحزبية، أو الحراك السياسي الطبيعي، وإذا كان نظام صدام حسين قد أطيح بالتدخل الأجنبي، بصورة فتحت المجال أمام تشكل غير طبيعي للمشهد السياسي، فإن الوضع السوري، وبعيداً عن شعارات الممانعة الوهمية، تميز بحكم يجمع بين الطائفية السياسية والانغلاق الفكري وتصفية الخصوم السياسيين بصورة حادة.
ـ بعد إسقاط نظام البعث العراقي، حاول الحاكم الأميركي، بول بريمر، صنع مشهد سياسي على مقاس المصالح الأميركية في المنطقة، ويراعي التوازنات الخارجية (الإيرانية والتركية، والى حد ما السعودية)، من دون اعتبار للنمو الطبيعي للعمل السياسي داخل البلد.
ـ استفاد تنظيم التوحيد والجهاد الذي سيتحول إلى داعش لاحقاً (عبر جملة من الطفرات التنظيمية) من حالة الفوضى السياسية، ومن شعور قطاع واسع من العراقيين بالخذلان وفقدان الكرامة الوطنية، ليتمدد ويتوسع، وسيزيد نمط الحكم المبتدع أميركياً، وفق لعبة طائفية مقيتة، من صب الماء في طاحونة التنظيم الذي سيجد له حاضنةً، تمده بأسباب البقاء.
ـ عندما اندلع الحراك الثوري في سورية، فشل النظام في التعامل مع التذمر الشعبي، والاستجابة لمطالب مواطنيه في الحرية والكرامة، واكتفى بتسويق نظرية المؤامرة، واختار مبدأ تدمير البلد، على أن يتنازل لمطالب شعبه، في أثناء الانتفاضة السلمية (في أشهرها الأولى على الأقل).
ـ تميز المشهد السياسي في كل من سورية والعراق بغياب التيار الإسلامي المعتدل، أو بالأحرى تغييبه، فمنذ القانون عدد 49 لسنة 1980، والإعدام يتهدد كل من ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين في سورية، وغياب العمل السياسي الإسلامي عن عراق البعث، لم يكن من الممكن الحديث عن بدائل إسلامية، تتوخى الحلول السلمية، وتؤمن بفكرة التفاوض السياسي في حده الأدنى، وهذا النمط من التشوه لم يكن ليفضي إلا إلى نشأة تنظيمات أكثر انغلاقاً وتشدداً وإيماناً بتذويب المجتمع، وصهره في قالب واحد، وهو أمر يعبر عنه تنظيم الدولة الإسلامية بصورة معلنة.
- لم يكن لنموذج داعش أن يجد أسباب الحياة والاستمرارية، لولا وجود الأنظمة الفاشلة في كل من العراق وسورية، وهو أمر لا تخفيه تنظيرات التيار الجهادي عموماً، خصوصاً من خلال ما تسميه "إدارة التوحش"، وهو عنوان كتيب شهير لأبي بكر ناجي، حيث يتضح أن البيئة المناسبة لتطور تنظيمات، مثل داعش، هي الدول الفاشلة، والتي تعجز أنظمتها السياسية عن تسيير شؤون مواطنيها، وتلبية حاجاتهم بمختلف أنماطها، أعني الاقتصادية والثقافية

والسياسية.
لقد عرفت الجزائر ظهور نموذج شبيه لداعش، تجلى في تجربة الجماعة الإسلامية المسلحة، والتي أعلن أحد زعمائها (الشريف قوسمي المكنى بأبي عبد الله أحمد) سنة 1994، قيام نظام الخلافة الإسلامية، مشكلاً حكومةً، تدير شؤون المناطق الواقعة تحت سيطرة الجماعة. وكانت الجزائر، حينها، تعاني آثار الانقلاب العسكري على المسار الانتخابي، والمشهد الديمقراطي الناشئ الذي أفضى إلى فوز التيار الإسلامي، وعلى الرغم من أنه لا يمكن نفي وجود جانب من التلاعب المخابراتي بالجماعات المسلحة حينها (تماماً كما يجري اليوم)، فإن الجزائر دفعت ثمناً باهظاً لسوء الإدارة السياسية، ما زالت آثاره مستمرة إلى اليوم، غير أن نموذج داعش الحاصل، اليوم، في العراق وسورية يبدو أكثر تعقيداً، وربما أشد صعوبة، في التعامل معه، مقارنة مع نظيره الجزائري السابق، بالنظر إلى العوامل السابقة التي ذكرناها، والتي تغذيه وتطيل في عمره.
كما أن إمكانية تمدد هذا النموذج أصبحت واردة، خصوصاً مع وجود أنظمة فاشلة أخرى، كما الحال في مصر، حيث يحاول النظام الانقلابي تصفية تنظيم الإخوان المسلمين المعتدل، وهو الذي يمثل صمام أمان حقيقي للمجتمع، غير أن رعونة الانقلابيين ورفضهم التعاطي سياسياً مع الجماعة، وتصنيفها كياناً إرهابياً، وإصدار أحكام الإعدام بالجملة ضد قادتها، وزج آلاف من مناصريها في السجون، قد يكون الوصفة السحرية لظهور نموذج داعش المصري، وإذا أضفنا الى المشهد منطق التلاعب المخابراتي والجوار الصهيوني، فإن الأمر سيكون أشبه بعلبة كبريت، قابلة للاشتعال في أي لحظة.
إن داعش، وبغض النظر عن مسألة إعلان الخلافة، أو حالة العنف التي تلازم ظهورها، وهي أعراض لمشهد متأزم، تشكل حالة معبرة عن أزمة الأنظمة الفاشلة في المنطقة العربية، وهو فشل يتلازم مع التدخل الأجنبي الذي يحرك بعض خيوط اللعبة، ولأن غباء الأنظمة العربية ليس له حدود، ولأنها لا تدرك أن ضرب الذين يفكرون، ويقبلون الحوار، سوف لن يؤدي إلا إلى صعود الذين يكفرون، ولا يؤمنون بغير السلاح، فإن الأزمة ستتواصل وتتشعب، وربما لن نرى الحل في المدى المنظور على الأقل.

 

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.