12 نوفمبر 2024
الأدبُ والجريمة
ليس الأدب بشكل عام، والرواية بشكل خاص، بعيداً ذلك البُعد عن عالم الجريمة الزاخر بأخبار القتَلة ووقائع الخطف والتعذيب والقتل. بل شكّلت حوادث القتل التي تنشرها الصحف في صفحات مخصّصة لها، مصدر إلهام لعدد من كبريات الأعمال الأدبية العالمية التي نجهل عنها أنها استلهمت جرائم واقعية، هزّت الرأي العام في حينه، من أمثال "مدام بوفاري" لفلوبير، و"الأحمر والأسود" لستندال، و"الكونت دو مونتي كريستو " لألكسندر دوماس. لقد نشأ هذا النوع الأدبي في القرن التاسع عشر، وكانت نشأته مرتبطة ارتباطا وثيقا بانتشار الصحافة الشعبية، ذات الطبعات الكثيرة والتوزيع الكثيف، غير أن أدباء تلك الفترة كانوا يأنفون الخوض في كتابة هذا النوع، وهم إن فعلوا، فقد كانوا لا يكشفون عن مصدر إلهامهم ذاك، لاعتباره أمرا مشينا يسيء إلى "أدبيّة" أعمالهم.
في بحث صدر أخيرا بالفرنسية بعنوان "الكتّاب وواقعة الإجرام: رواية أخرى للأدب"، للمؤلّفة منه تران هوي، نقرأ أن تقليد الصحافة الأدبية رأى النور في الولايات المتحدة الأميركية، حيث أُطلقت عليه عبارةُ narrative non-fiction ، أي السرد غير المؤلَّف، وهي عبارة غير قابلة للترجمة، لما تحمله من استحالة، إذ كيف لا يكون السرد مرادفا للتأليف؟ في مطلق الحال، لم يأنف الكتّاب الأميركيون هذا النوع المستند إلى وقائع حقيقية، أو ما يمكن تسميتها الرواية الوثائقية، بل إن بعضا من كبارهم كتبوا فيها، من أمثال أرنست هيمنغواي وتوم وولف ونورمان ميلر وترومان كابوت الذي كان رائدا في هذا المجال، وصاحب العبارة المذكورة أعلاه التي شرحها كما يلي في البيوغرافيا التي خصصها له جورج بليمبتون: "لقد بدا لي أن من الممكن استخراج شكل فني جديد وجادّ من الصحافة والريبورتاج: وهو ما كنت أسميه ضمنا الرواية – الحقيقة، والقصد من ذلك هو شكل سردي يستخدم تقنيات فنّ الرواية، مع البقاء أمينا عن كثب للوقائع".
عام 1959، اقترح كابوت على صحيفة نيو يوركر الكتابة عن جريمةٍ وقعت في كنساس، وراحت ضحيّتها عائلةٌ من المزارعين الأثرياء على أيدي مشرّديْن كانا مقتنعيْن بأنها تمتلك خزنة تحوي عشرة آلاف دولار. غير أنه بقي هناك خمس سنوات متتالية يُجري تحقيقاته، ويقابل المعنيين والشهود وحتى المجرمين اللذيْن حكم عليهما بالإعدام، ورافقهما الكاتب حتى لحظاتهما الأخيرة. وفي النهاية، كان ما أنتجه كابوت تحفة فنّية رائعة واستثنائية، حملت عنوان "بدم بارد" (1966)، لم يتمكّن هو نفسه، في ما بعد، من تجاوزها، وقد اعتُبرت مرجعا يحتكم إليه الكتّاب كلّما أرادوا الخوض في هذا النوع الأدبي الجديد.
عن تلك الرواية، كتب الروائي الفرنسي، جان ماري غوستاف لوكليزيو، الحائز على نوبل للآداب، يقول: "لم يكتفِ ترومان كابوت بمتابعة قضية قتل، بل إنه قام برحلة طويلة في تلك المتاهة الهاوية، تدفعه إلى ذلك رغبةٌ لا تقاوَم بمعرفة المزيد. لقد تتبّع أثرَ المجرميْن في الوقت نفسه مع الشرطة، استجوب مئات الأشخاص، وزار مئات الأمكنة. وعندما تمّ القبض على مرتكبَي الجريمة، قابلهما، وساعدهما، وأعطاهما مالا، وكسب صداقتهما، بل أنه حتى تابعهما حتى إعدامهما واهتم بنفسه بجنازتهما...".
والحال أن انشداد الكتّاب إلى قصص الجرائم ناتج، ولا ريب، ممّا تحويه من بُعد ميتافيزيقيّ يناديهم ويشكّل لهم إغراءً وهاجسًا، هم الساعون دوما إلى كشف لغز الطبيعة البشرية، وسبر أسرار ما يتعذّر سبره. "إنّ حوادث القتل تعيدنا إلى الإنسان، إلى تاريخه واستلابه، تهويماته وأحلامه ومخاوفه"، يكتب رولان بارت في كتابه "بحوث نقدية"، بينما ترى المؤلّفة منه تران هوي أن "الإواليات السرديّة لحوادث القتل تذكّرنا بتلك التي تلازم التراجيديا، حيث القدر - المصير محتومٌ لا يمكن تفاديه، هو الذي يطحن الكائنات، مهما كانت محاولات تغيير مساره".
في بحث صدر أخيرا بالفرنسية بعنوان "الكتّاب وواقعة الإجرام: رواية أخرى للأدب"، للمؤلّفة منه تران هوي، نقرأ أن تقليد الصحافة الأدبية رأى النور في الولايات المتحدة الأميركية، حيث أُطلقت عليه عبارةُ narrative non-fiction ، أي السرد غير المؤلَّف، وهي عبارة غير قابلة للترجمة، لما تحمله من استحالة، إذ كيف لا يكون السرد مرادفا للتأليف؟ في مطلق الحال، لم يأنف الكتّاب الأميركيون هذا النوع المستند إلى وقائع حقيقية، أو ما يمكن تسميتها الرواية الوثائقية، بل إن بعضا من كبارهم كتبوا فيها، من أمثال أرنست هيمنغواي وتوم وولف ونورمان ميلر وترومان كابوت الذي كان رائدا في هذا المجال، وصاحب العبارة المذكورة أعلاه التي شرحها كما يلي في البيوغرافيا التي خصصها له جورج بليمبتون: "لقد بدا لي أن من الممكن استخراج شكل فني جديد وجادّ من الصحافة والريبورتاج: وهو ما كنت أسميه ضمنا الرواية – الحقيقة، والقصد من ذلك هو شكل سردي يستخدم تقنيات فنّ الرواية، مع البقاء أمينا عن كثب للوقائع".
عام 1959، اقترح كابوت على صحيفة نيو يوركر الكتابة عن جريمةٍ وقعت في كنساس، وراحت ضحيّتها عائلةٌ من المزارعين الأثرياء على أيدي مشرّديْن كانا مقتنعيْن بأنها تمتلك خزنة تحوي عشرة آلاف دولار. غير أنه بقي هناك خمس سنوات متتالية يُجري تحقيقاته، ويقابل المعنيين والشهود وحتى المجرمين اللذيْن حكم عليهما بالإعدام، ورافقهما الكاتب حتى لحظاتهما الأخيرة. وفي النهاية، كان ما أنتجه كابوت تحفة فنّية رائعة واستثنائية، حملت عنوان "بدم بارد" (1966)، لم يتمكّن هو نفسه، في ما بعد، من تجاوزها، وقد اعتُبرت مرجعا يحتكم إليه الكتّاب كلّما أرادوا الخوض في هذا النوع الأدبي الجديد.
عن تلك الرواية، كتب الروائي الفرنسي، جان ماري غوستاف لوكليزيو، الحائز على نوبل للآداب، يقول: "لم يكتفِ ترومان كابوت بمتابعة قضية قتل، بل إنه قام برحلة طويلة في تلك المتاهة الهاوية، تدفعه إلى ذلك رغبةٌ لا تقاوَم بمعرفة المزيد. لقد تتبّع أثرَ المجرميْن في الوقت نفسه مع الشرطة، استجوب مئات الأشخاص، وزار مئات الأمكنة. وعندما تمّ القبض على مرتكبَي الجريمة، قابلهما، وساعدهما، وأعطاهما مالا، وكسب صداقتهما، بل أنه حتى تابعهما حتى إعدامهما واهتم بنفسه بجنازتهما...".
والحال أن انشداد الكتّاب إلى قصص الجرائم ناتج، ولا ريب، ممّا تحويه من بُعد ميتافيزيقيّ يناديهم ويشكّل لهم إغراءً وهاجسًا، هم الساعون دوما إلى كشف لغز الطبيعة البشرية، وسبر أسرار ما يتعذّر سبره. "إنّ حوادث القتل تعيدنا إلى الإنسان، إلى تاريخه واستلابه، تهويماته وأحلامه ومخاوفه"، يكتب رولان بارت في كتابه "بحوث نقدية"، بينما ترى المؤلّفة منه تران هوي أن "الإواليات السرديّة لحوادث القتل تذكّرنا بتلك التي تلازم التراجيديا، حيث القدر - المصير محتومٌ لا يمكن تفاديه، هو الذي يطحن الكائنات، مهما كانت محاولات تغيير مساره".