لا يستحق ويتس كل هذا، هو خارجُ الراهن وخارجٌ على الرائج، له صوت أجشّ يُسمع كالغرغرة، يُذكّر بذاك الذي كان لنجم عشرينيات القرن الماضي، لوي أرمسترونغ، يعزف موسيقى بلوز عفا عليها الزمن، يعتلي خشبة المسرح كمشرّد سكّير، صعب المراس، غريب الأطوار، لا يُجيد الحوار ولا لعبة العلاقات العامة.
بيد أن كل ما تقدّم، هو بالضبط ما جعل من توم ويتس نجماً استثنائياً، وظاهرة فنيّة فريدة. يعود ذلك الاستثناء وتلك الفرادة، وإن كان في هذا مدعاة للغرابة، ليس لأن توم ويتس طالما عبّر عن نفسه بصدق وأمانة - اقتداءً بأحد الشعارت الأبرز لخطاب رأسمالية ما بعد الحداثة؛ كن نفسك Be your Self، بل على العكس من ذلك تماماً؛ هو بالتمثيل وبقاربةٍ مسرحيّة لدور المؤدي المُغنّي، يُحاول سبر أغوار كينونته وكينونة الآخر، عبر لعب أدوار مختلفة وتقمّص أكثر من شخصية - وذلك ربما اقتداءً بعبارة "اعرف نفسك" Know Thyself (تلك الأمثولة الإغريقية الوجودية المحفورة في صدر ديوان معبد أبولو في دلفي اليونانية).
يقول توم ويتس في أحد الحوارات الإذاعية: "حتى وإن قلت: "أنا" في إحدى أغنياتي، لا يعني ذلك بالضرورة أن تلك "الأنا" في الأغنية هي أنا، فالغناء بالنسبة إليّ أن أعتبَ خارج نفسي قليلاً لبعض الوقت".
يتحدث بونز هو Bones Howe، صديق ويتس الوفي والأمين ومُنتج ألبوماته في فترة بين السبعينيات والثمانينيات، عن أن "توم (الإنسان) حينما كان يزوره في البيت مُتحلّقاً حول مائدة العشاء، كان شخصاً عادياً، وإن ظل دوماً ذا شخصية حاضرة الذهن، سريعة البديهة وصاحبة حسّ فكاهة مرهف.
كان توم ويتس يعي أن (ويتس) على المسرح، إلى البيانو، خلف الميكروفون وأمام الكاميرا، ما هو إلا رداءٌ سيكولوجي، آلة أخرى في خدمة الأغنية، مَهمّتها مسرحَة اللحظة، أي جعل الأغنية تتناهى إلى أذن السامع، بقدر ما تتراءى أمام أعينه، ليس بوصفها محض خطابةٍ، بل قصّة معيش يومي للإنسان، تمزج المرح بالمعاناة والوجع بالنشوة الهستيريّة.
في خاصية مسرَحة الأداء الغنائي، يشترك توم ويتس مع نجم آخر على الضفة المُقابلة من الأطلسي، سبقه قليلاً ولربما لم يلتق الاثنان على الإطلاق، ذلك هو أسطورة الأغنية الفرنسية البلجيكي جاك برِل Jacques Brel (1929 - 1978). شاعران يكتبان كلمات أغانيهما كما يُلحّنانها ويغنيّانها بأنفسهما. بيد أن المُشترك الأكبر هو إتقان الأداء الدرامي على الخشبة؛ اعتبارُ أن الأغنية هي بمثابة حالة نفسية تقتضي الاندماج والتماهي الحضوري بالمعنى والمغنى، بغية إيصال مضمونها إلى الجمهور من باب التعاطف الإنساني والإحساس المُشترك.
ضمن سياق عالمنا العربي، تجدر الإشارة إلى مجايلٍ مصري لجاك برِل ونظيرٍ موازٍ له؛ هو الراحل عبد الحليم حافظ (1929 - 1977)، كنموذج رائد ونادر عربياً (عاصره اللبناني الراحل فيلمون وهبي/ 1914 - 1985).
سعى عبد الحليم بدوره إلى مسرحَة الأداء الغنائي، إلا أنه، في مجتمع شرقي مُحافظ، أتت مسرَحةُ أدائه أكثر حشمةً وأقل تحرّراً لجهة استخدام الجسد في التعبير، يُقيّدها جلالُ صورة المُطرب لدى الذهنية الجمعية العربية، فيقتصر أداؤه الدرامي على إشراك تعابير الوجه ومخارج الحرف والصوت، ولا سيما أنه الفنان - مثله كمثل برِل وويتس - ذو الباع الطويل والتجربة الحية في ميدان التمثيل المسرحي والفيلم السينمائي.
لكن مَن هي يا ترى، أو ما هي، تلك الشخصية التي أراد توم ويتس تجسيدها لتكون حاملاً نفسياً حاضراً لأغنياته؟ إنها شخصية ذلك الشقيّ، الهامشي المنبوذ من سرمدية الحُلم الأميركي Redundant. ربما من دون عناء الغوص في المسائل الفلسفية المُعاصرة، وبمحض الحدس والفطرة الطبيعية، قدّم ويتس، سواء بكلمات أغانيه، بألحانه وبأدائه المسرحي، نقداً عميقاً لإديولوجية اقتصاد السوق الحر القائمة على تسليع الوجود البشري، ومن ثم بيع الحلم بنعيم الرخاء بالتقسيط، رهنه كصكّ غفران أرضيّ، حيث ستفنى غالبية الناس من دون تحقيقه وسداد دينه.
العُصابي المُضطرب، الوحداني المُنعزل كأنه نُفاية من نفايات المُجتمع، المُتعلّق بُمكيّفات الحياة اللذّوية "الهيدونية Hedonistic" كالكحول والتبغ، المُتسكّع في الطرقات المُظلمة، المُتردد على الحانات الليلية العتمة، يُسامر ويُراقص بائعات الهوى، فالمرأة في مسرح ويتس، وفقاً لطرحه النقديّ، مثلها مثل علبة السجائر وزجاجة الويسكي، تؤول جسداً سلّعته ثقافة الاستهلاك، بينما المرأة خارج المسرح وفي حياة توم الخاصة، هي مُنقذته ومُلهمته، رفيقة عمره المُنتجة كاثلين برينان Kathleen Brennan التي لم يفترق عنها منذ زواجهما سنة 1980.
في مسرحه، هو أيضاً الشخصية "السينيقية - cynic" غير المكترثة ولا المُبالية في وجه الخطر Risk Taker. شخصيةٌ لطالما رَمْنستها هوليوود romanticised وروّجت لها أيديولجيّة اقتصاد السوق الحر، بوصفها إما السبيل إلى بلوغ الحلم، أو تبرير الشقاء المُترتب عن الإخفاق من دون تحقيقه، وذلك في مُجتمع رأسمالي قاسٍ، قائم على مُنافسة شرسة عديمة الرحمة، لا توفّر أي شبكة أمان اجتماعية، ولا حتى صيغة تكافلية تضمن انتشال أولئك ممن تقطّعت بهم السبل وعصفت بهم رياح الزمان.
صورةُ السينيقي غيرُ الآبه للمخاطِر كانت قد تجلّت في واحد من مشاهد فيلمٍ قصير أخرجه رودي دولِزال Rudi Dolezal عام 1978 موثّقاً رحلة فنية قام بها توم ويتس إلى العاصمة النمساوية، فيينّا، حيث يُشاهد الأخير يقفُ في محطّة للوقود أمام آلة الضخّ، وسيجارة في فمه، فيما أصابعه تلهو بعود ثقاب.
كل من توم ويتس وزوجته كاثلين كاتبان. كانت كاثلين تكتب السيناريو ناهلةً من عالم الحلم، بينما كتب توم قصص أغانيه ناهلاً من عالم الواقع، فما كان في الأخير إلا أن نجحت كاثلين في سحب توم إلى عالمها.
لتبدأ مرحلة جديدة، سُوريالية، استهلّها توم بألبوم Swordfishtrombones عام 1983 وبتأثير وإلهام جلّي وواضح من زوجته، بدّل ويتس فيها من شخصيّته، خلع عنه رداءَ المشهديّة لرومانسية المدن الصناعية وأفلام العصابات الداكنة Film Noir التي ظلت مسرحاً لجُلّ أغنياته - وإن بقي ذلك التبدُّل في سياق الموقف النقدي ذاته من الحياة المُعاصرة.
سينتقل توم ويتس وحسْب من التسكّع في أرجاء الخلفية الموحشة والعتمة القابعة في ظل الحُلم الأميركي، إلى الولوج في الحلم نفسه. بيد أن حلم ويتس كأن به قد حلّ ولم يف بالوعد، لم يأت بالرفاه والرغد، بل إنه انقلب كابوساً رهيباً، محض هلوسة وهستيريا ومسوخاً عجائبية، كأن بالسوريالية هنا ليست إلغاءً لما سبق، بل استكمال لذات الهروبيّة والنزعة التغريبيّة، سُبل وطرائق أولئك المنبوذين في مواجهة آليّات القمع والعزل والاصطفاء الطبقي في المُجتمعات الرأسمالية الحديثة.
أن تكون مُمثِّلاً لا يعني بأي حالٍ أن تكون مُزيفاً. يبقى هذا القول مدخلاً أساسياً لقراءة إرث توم ويتس الفني وفهمه. فهو شاعرٌ فذّ أولاً، يُحسن تحميل الكلمة بمستويات مُركّبة من المعنى، ترثي الحياة، تُدهَش لها وتسخر منها في آن واحد، حيث تبقى الحياة في الأخير "أفضل من لا شيء".
ثانياً، هو موسيقي بالفطرة، تسيل ائتلافات ألحانه على البيانو ومن بين أصابعه، كدفق ماء جدول صغير من بين أغصان الشجر. أما أداؤه التمثيلي، فهو محاولة انفتاح على الآخر، عبر تقمّصه والتماهي به، بغية العيش من خلاله والتعاطف معه، إرادةُ الحزن لحزنه والبهجة لبهجته، بحثاً عن "الأنا" فيه.