ويتس بين عامي 1983 و1993: عقدٌ من التجريب الطليعي

07 ديسمبر 2019
نجد في شعره وأدائه أثراً لمسرح بريخت (مات ماهورين)
+ الخط -
عندما نمرّ على أعمال توم ويتس، قد نجزم على غرار ما نقرأه عنه في بعض المقالات، أن أعماله مناهضة للرأسمالية وللحداثة، لما تتضمّنه من شعر عن الباعة المتجوّلين والمجتمع الاستهلاكي والمشرّدين.

إن رصْدنَا هذا للبعد الأيديولوجي في أعمال ويتس هو على وجه من الحق. لكن، من ناحية أخرى، قد ينطوي هذا الرأي على ربط مباشر جداً بين الأيديولوجيا والفن، ما قد يغشي التفاصيل الاجتماعية-التاريخية للإبداع الفني. كيف لنا، إذاً، أن نؤطّر أعمال ويتس من الناحية الفكرية؟ وإلى أي نوع من الموسيقى تنتمي تلك الأعمال؟ من أين تأتي تلك الـ"غرابة" الفجّة في أغانيه بعدما تحوّل أسلوبه الموسيقي، ابتداءً من عام 1983، عن المثال الجماهيري إلى التجريب الإيقاعي والصخب والكتابة الشعرية المسرحية؟

في الواقع، عندما نتناول أعمال توم ويتس، لا بد وأن نتحدّث أيضاً عن الفن الطليعي (Avant-gardisme) الذي يرفض الفن المكرّس في الذوق العام على أنه "الصحيح" و"الجميل"، وعادة ما يكون الرديف الاجتماعي-الاقتصادي هو ما تكرّسه مؤسسات مهيمنة تنتج وتوزّع المواد الفنّية، كالمتاحف وشركات الإنتاج والتوزيع. عليه، فالفن الطليعي يصبو إلى تقديم جدّة من حيث الشكل أو المضمون بالنسبة إلى الفن الجماهيري.

ما يعنينا من كل هذا، أنه حتى لو تأثر ويتس بالتيّارات الطليعية التي سبقته، حيث نجد في شعره وأدائه أثراً لمسرح بريخت، ونقع في طريقة عيشه البوهيمية على أثرٍ لثقافة الـHippie، وفي التجريب الإيقاعي نعثر عنده على أثر لروّاد الموسيقى المعاصرة الأوروبية أمثال Steve Reich وHarry Partch، إلا أنّ الأهم من اقتفاء أثر الطليعيين السابقين في أعمال ويتس، هو معرفة ماهية التيّار الطليعي الذي انتمى إليه في ثمانينيات القرن المنصرم.

من هذا المنطلق، سنُعنى بالفترة الواقعة بين عامي 1983 و1993، باعتبارها السنوات العشر الأولى التي تبلور فيها أسلوب "العبقري المجنون". تصادف بداية هذه الفترة صدور ألبوم Swordfishtrombones، أما تاريخ نهايتها فيصادف تأليف ويتس لموسيقى مسرحية The Black Rider. وعلامة انتهاء هذه السنوات العشر هي صمت ويتس لمدّة ست سنوات، وانسحابه إلى هدوء الحياة العائلية في شمال الريف الكاليفورني منذ بداية التسعينيات.

اخترق ويتس للمرة الأولى النخبة الموسيقية عندما ألّف موسيقى فيلم One From The Heart (1982) للمخرج الأميركي Francis Ford Coppola الذي كان قد اشتهر بعد إخراجه فيلم The Godfather (1972).

ومن المعروف أن Studios Zoetrope، موقع عمل ويتس آنذاك، شهد على الحب من النظرة الأولى الذي حمله ويتس لكاثلين برينان، المرأة التي تزوّجها فيما بعد، والتي كانت قارئة ومحللة لنصوص الأفلام في الاستوديو نفسه. وبحسب المقابلات مع ويتس، يبدو أن زواجه من برينان مدّه باستقرار عاطفي تباين مع إدمانه الكحول وحالة الاكتئاب اللذين كان يعيشهما.

كان هذا الزواج على انسجام تام مع تطلّعات ويتس المهنية، إذ كثيراً ما شاركته زوجته في كتابة أعماله واتخاذ القرارات بشأن مسيرته الفنّية. ومن أبرز قرارات ويتس في تلك الفترة، كان تحوّله عن التعامل مع شركتي التسجيل Asylum وElektra الرئيسيّتين في عالم الموسيقى الجماهرية في السبعينيات، ليتعامل مع شركة Island Records الداعمة للإبداع المخالف للموسيقى الجماهيرية.

استمر ويتس في مدّ شبكته في محيط المثقّفين بين أميركا وأوروبا. كانت مدينة نيويورك آنذاك، وتحديداً حيّ Soho، مركز التقاء المثقّفين الطليعيين، حيث انتقل بالفعل مع زوجته وابنته عام 1984. يمثّل حيّ Soho المدينة الرأسمالية بامتياز، بعماراته التي تعود إلى الفترة الصناعية من القرن التاسع عشر. ونظراً إلى انخفاض إيجارات السكن في ذلك الحيّ في الخمسينيات من القرن المنصرم، فقد استقطب الكثير من الفنانين الشباب الطليعيين على غرار Philip Glass الذي كان يكسب قوته من قيادة سيّارة أجرة. وللمفارقة، فقد أصبح هذا الحيّ مذّاك مكان تعبير الفنّانين الطليعيين عن اغترابهم عن المدينة الحديثة.

من أهم ما جرى مع ويتس في نيويورك، كان حضوره لحفلةٍ أقامها الفنّان التشكيلي Jean Michel Basquiat في حيّ Soho على شرف عازف الساكسوفون John Lurie وفرقته. وقد قال Lurie إنها اشتملت على حضور كل من Andy Warhol وSteve Rubell وBianca Jagger وJulian Schnabel وFrancesco Clemente وWim Wenders وTom Waits وJim Jarmush و Marc Ribot، وقرابة 30 شخصاً آخرين لكل منهم ثقله في ميدان ما. بالطبع، لم يشكّل كل هؤلاء تيّاراً طليعياً منسجماً، بل كانوا على ذوق متقارب مع فروقات تعود لميدان عمل كل واحد منهم.

أدت تلك الحفلة التاريخية إلى تعاون ويتس مع عازف الغيتار مارك ريبوت - الذي كان بدوره طليعياً في ميدان الجاز - في ألبوم Rain Dogs (1985) وفي ألبومات لاحقة. كذلك أدّت إلى تعاون ويتس مع جون لوري وجيم جارموش في فيلم Down by Law (1986). بالطبع، لنا أن نتخيّل مقدار الخبرات التي يتشاركها فنّانون من هذا العيار عندما يجتمعون معاً لإنجاز عمل ما.

وفي حين أنّ ويتس كان لا يزال يافعاً في ميدان التجريب الموسيقي في تلك الفترة، كان فيليب غلاس الطليعي في ميدان الموسيقى الجدّية المعاصرة، قد أثبت نفسه عالميّاً. أُعجِبَ ويتس بتعاون غلاس مع المخرج المسرحي Robert Wilson-الذي هو أيضاً كان آنذاك طليعياً في المجال المسرحي-الموسيقي، إذ قدّم، مثلاً، مسرحية Einstein on the Beach (1976)، وقد تمكّن ويتس من العمل مع ويلسن على المسرحيتين الموسيقيتين Alice (1992) وThe Black Rider (1993).

لكن عندما نعلم أن كاتب المسرحية الأخيرة William S. Bouroughs الذي كان يكبر ويتس بـ 35 عاماً، كان من أعلام تيّار The Beat Generation الذي صعد في أميركا في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، ندرك كم استطاع ويتس في نهاية أول 10 سنوات من طليعيته في الموسيقى والشعر أن يراكم من خبرة فنّية، وأن يزيد من رصيده في وسط النخبة الفنّية آنذاك.

بالإجابة عن الإشكالية المصغّرة التي كنا قد طرحناها في البداية، فالفن الطليعي في الثمانينيات كان يتحرّك بالتوازي مع نقاشات فكرية دارت عن علاقة الأيديولوجيا بالفن، وعن الوجودية والاغتراب، وعن الحداثة وما بعد الحداثة. لكن عندما نقول "فن" و"طليعية" و"ثمانينيات"، فنحن نشمل كل أنواع الفن والنقاشات الخاصة بكل ميدان فنّي.





عليه، فإن من الصعب جداً أن تكون موسيقى ويتس أيديولوجية، ولو أنها اتخذت مضامين وأشكالاً أيديولوجية، ذلك أن صراع ويتس كان أولاً صراعاً فنّياً ومهنيّاً، أراد من خلاله بناء طريقة خلقه للفن. وأهم دليل على هذا، امتداد طليعية ويتس من الموسيقى والشعر إلى المسرح والتمثيل، وانسجامه النسبي مع محيط واسع من المثقّفين، وصعوده سلّم النخبوية.

وإذا كان ويتس عبقريّاً مجنوناً، فسيكون أيضاً حكيماً، إذ لولا قدرته على اتخاذ القرارات الصائبة بشأن إدارته لعمله وتعاونه مع من حوله، لما استطاع بناء خلقه الفنّي.

أخيراً، يمكننا القول إن ويتس حمل في موسيقاه كلاً من خبرته الاجتماعية والإرث الموسيقي الأميركيين إلى مجالي المسرح والسينما، مستفيداً من الطليعية الأوروبية المنمّقة، إذ بإمكاننا تصنيف فنّه في خانة التجريبية الطليعية. أمّا ما نراه من فجاجة في بعض أعماله، فما هي إلا نتيجة شكلية لبناء فني معقّد. يا لها من طليعية نخبوية-عامية لا تخيب في إدهاشنا!

المساهمون