ويتس والـ Beat Generation: أن تعيش داخل أغنية

07 ديسمبر 2019
من اليسار: توم ويتس وآلن غينسبيرغ وديفيد بلو (Getty)
+ الخط -
تتفلّت جملة "لم يكن لدي أدنى فكرة مَن أو ماذا كان" من كاثلين برينان عند حديثها العذب عن تعارفها بتوم ويتس، في برنامجٍ ساهرٍ عُرض عام 1981. ويتس، الذي يجلس قرب البيانو مبتسماً وخجلاً، كان قد مضى على زواجه بكاثلين قرابة نصف عام، بعد لقائهما خلال العمل في فيلم ONE FROM THE heart (1979) من إخراج فرانسيس فورد كوبولا. في ذلك الحين، كان ويتس متوهّجاً، وقد كبرت أسطورة المغني الذي يكتب أعماله خصيصاً بعد انتقاله إلى سان فرانسيسكو.

يضع ويتس فكرةً عن كينونته "مَن أو ماذا كان" بكلماته في البيان الصحافي المرفق بألبومه The Heart of Saturday Night، الصادر عام 1974: "أنا عازف بيانو جوّال بتكنيك ضعيف، لكن مع ذائقةٍ لحنيّةٍ جيدة. أكتب في المقاهي والحانات ومواقف السيّارات، ألبومي المفضّل كيرواك - آلين". يتضمن البيان تفاصيل إضافيةً عن سيّارته والمخالفات المتراكمة عبر مساره، ويذكر ويتس عدداً من كتّابه المفضلين، أبرزهم جاك كيرواك وتشارلز بوكاوسكي وغريغوري كورسو.

يوضح ويتس دور كيرواك بإلهامه في أثناء صنع هذا الألبوم، فالعنوان بذاته مقتبس من مقطعٍ كتبه كيرواك في رواية "رؤى كودي"؛ إذ نقرأ: "لا أحد تمكّن، مهما كان سكيراً أو مقاتلاً أو فحلاً، من إيجاد مركز ليلة السبت في أميركا". وعلى ذلك، أحاط ويتس في ثاني ألبوماته بهذه المساعي التي يقوم بها من لفظهم الجميع وهاموا تحت الإنارة الخافتة في حزنٍ ويأس، يقودهم توقهم بالحياة لمحاولة أخرى ومكان جديد خارج واقعهم.

سخّر ويتس في هذا الألبوم ملكاته الصوتية ومساحته التخيّلية الشاسعة لوصف العاديين، مقترباً من الحالة الذهنية التي وصّفها رائد جيل/ حركة البيت Beat Generation، جاك كيرواك، قبل عقدين من الزمن، وملمّاً بأبعاد شريحةٍ مجتمعيّةٍ تغاضى عنها الأدب والفنّ طويلاً، فراقب انسلالاتها خارج المحتّم نحو مجازاتٍ روحانيةٍ تنتهك المقدّسات، بالترافق مع امتلاكه لشخصيّة المؤدي المتماهي مع ما يقدّم، وفرادة سلوكياته التي تمهر موسيقاه.

استقى ويتس إلهامه الأكبر من ثلاثي حركة البيت المتمثّل بجاك كيرواك، آلين غينسبيرغ وويليام بوروز. وعلى اختلاف درجات التأثر والنتاج الفنّي الناجم عن كلّ منها، وجد ويتس ضالّته في البدء عند كيرواك.

ففي حديثه عام 1975 لمجلة ميلودي ميكر، يقول: "قبل أن أجد كيرواك، كنت أتلمس دربي لأجد ما أتعلّق به أسلوبيّاً". هذا التطوّر في منهجيّة الكتابة ألقى بظلاله على الموسيقى في أعمال ويتس، إذ يستطرد: "إن لم أجد لحناً مناسباً للكلمات، لا أكترث، أقولها على أيّة حال دون موسيقى".

إنّ الاحتفاء الذي عامل به ويتس أعمال كيرواك يظهر جليّاً في لقائه التالي مع ذات المجلة عام 1978: "دائماً أجلّه، فقد قاد دفّة الأدب الأميركي المعاصر لمدّة عشرين عاماً، أشعر بشبح كيرواك أينما ارتحلت"، بعد أن ذكر في لقائه الأول بحثه الحثيث عن شبح كيرواك تحت أضواء المدينة (سان فرانسيسكو) ومخازن كتبها، وصولاً إلى أغنية "ميدلي: جاك & نيل/ كاليفورنيا هير آي كوم" في ألبوم "فورين آفيرز" 1978. هذه الأغنية المستقاة من كتاب كيرواك الأشهر، "في مهبّ الطريق" On the road، تتبّع ملاحظات رحلة سال باراديس ودين مورياتي إلى "كاليفورنيا"؛ وهنا لم يفصل ويتس الهويّات الأدبية البديلة عن الشخصيّات الحقيقية لجاك كيرواك ونيل كاسيدي.

لم يلقَ الألبوم النجاح المتوقّع، لكن ويتس بقي مرتاحاً في صناعة النمط الذي يريده، فبعد الحفل المسجّل Nighthawks at the Diner (1975) الذي نال وافر الناجح بما احتواه من تأثيرات الخمسينيات، الجاز موسيقيّاً وحركة البيت شعريّاً، توسّع ويتس في خياراته ضمن الطبقة العاملة/ الكحوليّة ومقاربته الحميميّة للمكان تحت الأرضي وشخوصه.

في ألبوم Small Change (1976)، ابتعد ويتس عن التدخل في مسار القصّة التي يرويها، واكتفى بوجوده مراقباً، لا يمنح الخلاص أو العقاب لأبطاله المعنّفين، وبدأ العنف يتّخذ طريقه لمسارات ويتس الذي سيصطبغ بها في وقتٍ لاحق.

خلال النصف الثاني من السبعينيات، طوّر ويتس أدواته ومرّن نفسه بأكثر من تعاطٍ غنيّ مع المهمّشين، ما ولّد شاعريّةً تتنقّل بين ما يراه المتجوّل بأمّ عينه وما يقرأه ويتأثر به من كتّابٍ سبقوه أو عاصروه وخاضوا في تجارب مماثلة، وبذلك تتكامل تجربة الأدب النافر من التصنيفات الأدبية والمتأثر بالجاز في الخمسينيات، مع الموسيقى التي تستعير عناصر أدب البيت وتوظّف فضاء البنية السفلية في تأسيس ملامح لكل أغنية.

ممّا تقدّم، يبدو مفهوماً أن يوسَم ويتس بكونه مخبولاً من زمنٍ آخر؛ هذه النظرة التي يراها قاصرة. لكن بالنسبة إلى جيل البيت وويتس باتّباعه لمذهبهم ومقاربته لهم، تبقى الطرق والمساحات المفتوحة باباً للرحلة، فالإجابة على بعد مسافةٍ وزمن، وهذا ما ينطبق على شخصيّاتهم المرهقة؛ فهم الحالمون، والعابرون، والمتنقّلون، والنادمون على البقاء. الطرق المفتوحة تمثّل رمزيّاتٍ متعددةٍ لحريّة الأفراد، سواء تمثّلت برحلةٍ روحانيةٍ، أو هرباً بعد سرقة، لكن الطرقات الخاوية إلّا من الملفوظين هي وحدها مكانهم، فالمنازل مساحةٌ للراحة ونسيان الوجهة.

لكنّ ويتس الذي يوضح خلال المقابلة المتلفزة عام 1981 أنه رجلٌ متزوجٌ سعيد قلّما يخرج، سيخوض تجربةً موسيقيةً متجددةً مع زوجته وشريكته الفنيّة لاحقاً، وإن تغيّرت بوصلته نحو أنماطٍ مختلفةٍ أغنت مساره الاحترافي وأبرزت مكامن إضافيّة؛ إذ إن النظر إلى تلك المرحلة بقوسٍ أكبر، تفيد بأن شخصيّات أغاني ويتس، على ثرائها، تبدو متقاربة وتنتمي إلى ذات الطبقة المسحوقة.

التقى ويتس بويليام بوروز عام 1989، وعملا معاً على مسرحية The black rider الأوبرالية؛ فكتب بوروز النص بالتشارك مع روبرت ويلسون، واشتغل ويتس على موسيقى العرض التي ستصدر كألبومٍ بذات الاسم عام 1993، تتمحور المسرحية التي تتقلب في مخيالات مظلمة ووحشيّة حول الموظف المكتبي الذي يسعى إلى الزواج بابنة الصيّاد، لكن الأخير يرفض ويصرّ على تزويجها بصيّاد آخر، إلى أن أثبت الموظّف مهارته وحنكته كصيّاد. وإثر متابعة الطقوس الغريبة والصفقات المريبة مع الشيطان، يحوز الموظف مكانة الصيّاد، لكن الزواج لن يتم بسبب مسابقة في الحفل تودي بحياة العروس.

في إصدار "جاك كيروك يقرأ على الطريق" (1999)، الذي يجمع تسجيلات محفوظة لكيرواك، كان قد عمل عليها خلال الخمسينيات، تتنوع بين قراءات يرافقها الجاز، وصولاً إلى الغناء في بعض المقاطع، يُختتم التسجيل بإصدار لويتس مع فرقة بريموس يؤدّون On the road - الموجودة أيضاً ضمن الألبوم بأداء كيرواك - لتكون باكورة أعماله الروائية أكثر أعمال حركة البيت ظهوراً عند ويتس. يذهب ويتس أكثر من ذلك في مقابلة مع NME عام 1976 ليقول إنّه يمتلك الإصدار الأول من "رؤى كودي"، الرواية التجريبية لكيرواك المنجزة في الخمسينيات، التي أُعيد اكتشافها منتصف السبعينيات.

بالنسبة إلى ويتس، أغاني المغامرات كانت دوماً محببّةً إليه: "الجميع جرّب مرةً في مرحلةٍ ما إن يعيش داخل أغنية، حيث يموت الأبطال في سبيل الحبّ، أغانٍ عن أشخاص فارّين وسفنٍ مسكونةٍ أو سرقات البنوك. دائماً وددت أن أعيش داخل الأغاني وألّا أعود أبداً. الأغاني هي وصفاتٌ للخرافات والغيابات غير المفسّرة". سيعود ويتس لاحقاً لـ On the road، ويعيد إصدارها في مجموعة Orphans: Brawlers, Bawlers & Bastards بعنوان آخر هو tom waits Home I'll never be.

المساهمون