اعتقال اللاجئ واعتقال البذيء

13 ديسمبر 2018
+ الخط -
زوار الفجر من الجيش اللبناني يداهمون مخيماتٍ للاجئين سوريين تحيط ببلدة عرسال، الواقعة على الحدود بين سورية ولبنان. إنها المرة الثانية خلال سنة؛ العام الماضي بالضبط وبالسيناريو نفسه. في الخامسة فجراً، أيقظوا أهالي المخيم من نومهم، بعد ترويعهم. بقوة سلاحهم الميري، وقرارات قيادتهم. سحبوا من فراشهم رجالا ونساء وقُصَّرا. على امتداد فجرَين متتاليَين، بلغ عدد المعتقلين خمسمائة لاجئ. وكان السؤال الأول الموجَّه إلى أولئك المنتَزَعين من نومهم، الواقفين في البرد القارس، الممنوعين حتى من استخدام المراحيض: "ماذا تفعلون في لبنان إلى الآن؟ لماذا لم تسجلوا عائلاتكم في برنامج العودة الطوعية إلى سورية؟ لماذا لم ترجعوا إلى سورية بعد؟".
بعد ذلك، وبعد "تحقيق"، دقيق بالتأكيد، يُخلى سبيل 452 لاجئا، يضيع منهم طفل قاصر، لا نعرف مصيره حتى الآن. ثم يُحتفظ بـ 48 لاجئاً. ويتبيّن أن 27 واحدا منهم فقط مطلوبون بمذكرة توقيف، أما الباقون فتتراوح التهم الموجهة إليهم بين إقامة غير شرعية في لبنان، وعدم تجديد بطاقة الأمن العام، والاشتباه بالمتاجرة بالمخدرات. طبعاً لا شيء قانونيا في هذه الحركة؛ لا مذكرات توقيف، ولا لائحة اسمية اتهامية، ولا إشارة قضائية. إنما تقصير متعمّد من
السلطات بعدم تجديد إقامات اللاجئين، بغية إبقاء سيف المداهمة مسلطاً فوق رؤوسهم، أي أن الجيش أراد محاسبة اللاجئين على ما لم يَقُم به الأمن العام من واجباتٍ دنيا، بأعراف الضيافة الشرقية، كما بأعراف الأنظمة الحديثة وقوانينها الخاصة بحقوق اللاجئين.

الصمت الإعلامي شبه المطبَق، و"الجماهيري" أيضاً: كان هذا نصيب حملة المداهمة العسكرية لمخيمات اللاجئين في عرسال، فضلاً عن شحّ المعلومات. وقد ورد بعضها عن غير الطريق التقليدي.
في هذا الوقت نفسه، وتحديداً في اليوم الثاني من المداهمات، كان سياسي صاحب هوى أسدي، يغذّي هذا الإعلام نفسه بمادة ترفع "الريت" (نسبة المشاهدة) إلى ذروة جديدة. يخطب في جمع من أنصاره، فيلقي الشتائم والبذاءات بحق رئيس الوزراء المكلف، ينال من شرفه ومن شرف أبيه. وينتقل في اليوم الذي يليه، إلى "الميدان"، فينظّم قافلة رجالٍ مسلحين، غرضها استفزاز خصومه من الطائفة، غير الموالين لبشار الأسد. يتدخل الجيش، يوقف العراضة المسلحة، ويرغمها على العودة أدراجها إلى قريتها عن طريق التفافية طويلة. المهم، أن محامين، بإيعاز من رئيس الوزراء على الأغلب، يرفعون دعوى على صاحب اللسان البذيء، بتهمة السبّ والتشهير، فيكون للأمن الداخلي فكرة غير ماهرة، بأن يرسل قافلة إلى قريته، حيث يتحصَّن، مطلوب منها كلها أن تحضر السياسي البذيء إلى القضاء، بعد تمنّعه. يختبئ السياسي، عند وصول القافلة، ويحصل إطلاق نار، من مسلحيه الذين "يحمون" قصره، يقتل على أثره مرافقه الشخصي، فتنفجر مشكلة محلية، بين أبناء الطائفة الدرزية، وبينها وبين بقية الطوائف، وتنبيهات صارمة من القيادة الأمنية العليا للبنان، أي حزب الله، إلى خصوم السياسي البذيء، بلغة "قاسية"، تحذّرهم من مغبّة "التطاول" عليه، إذ ينوي الحزب حماية حليفه الدزي، بوفاء شديد، شبيه بذاك الذي تغنّى به، عندما عطّل تشكيل الحكومة بذريعة توزير أحد السنّة المحسوبين عليه؛ الآن دور الحليف الدرزي. والأهم من ذلك أن السياسي البذيء خرج بطلاً من ملحمة الشتائم والعراضات، وفشل محاولات جلبه إلى القضاء. قويت جبهة مناصريه بالغضب وردّ الاعتبار، وقميص عثمان القتيل الذي سيستثمر بأذكى الأوجه. ودخلت البلاد، كما تدخل يومياً، في نوبةٍ، أمنيةٍ مذهبية، وفي حساباتٍ كيانية، وفي خوف وفضول. تمكّن حزب الله حتى الآن من أن يحتويها، باحتضانه النائب البذيء، وبتحذير خصومه من المذهب نفسه، من أنه يمثل قطباً محورياً، على الرغم من أنه خرج خاسراً في الانتخابات النيابية أخيرا. حتى هذه اللحظة، "اصطلحت" الأمور، وتم تعويم السياسي البذيء، بما يعدّل من ميزان القوى، لصالح الحصة الأسدية، فطارت التهم الموجهة إلى السياسي البذيء، وباتت مسألة جلبه إلى القضاء سبباً وجيهاً لاندلاع فتنةٍ تنال من أركان الوطن، وتعاضُد أبنائه...

الآن، النتيجة. بين نهاية الشهر المنصرم وبدايته، حصلت الحادثتان، وهما تغريان بالمقارنة: الثمانية وأربعون لاجئا المعتقلون. ما زالوا معتقلين، وبتهمةٍ ليسوا هم مسؤولين عنها. وصمتٌ حولهم طبعاً. فيما السياسي البذيء طليق حرّ، على الرغم من مذكرة التوقيف. وعلى كل حال، لو حضر وواجه القاضي، ربما يكون بذلك يراكم أوراق الغار على جبينه، وتتألق بطولته بمزيد من قبح اللسان.
ثانياً، القصاص في مخيم اللاجئين جماعي، كلهم متهمون، كلهم يستحقون الإذلال والإهانة والإخراج فجراً والاعتقال، كما يفعل الإسرائيليون بالفلسطينيين، فيما القصاص الفاشل عند حادثة السياسي البذيء فردي بامتياز، والقتيل الذي سقط في معْمعة محاولة الجلب، سوف يخلِّد الواقعة البطولية للعيّاب الشتّام، الذي يرفض الامتثال للقضاء.
ثالثاً، كان السفير السوري في لبنان، علي عبد الكريم علي، حاضراً بقوة في مراسم تشييع القتيل مرافق السياسي البذيء. قام بواجبه على أتم ما يُرام. ولكنه لم يغير رأيه بخصوص مواطنيه اللاجئين: بإمكانهم العودة إلى سورية. كما يردّد النظام. كما يَعِد ولا يوفي بغير النقيض. فكان من واجبه المهني عدم الالتفات إلى مداهمة مخيمات مواطنيه، إذ يدفعون، برأيه، ثمن خطيئتهم، بهربهم من الموت على أيدي رئيسه، فالبائس في الموضوع أن الذين تسبّبوا باقتلاع السوريين من ديارهم وتحويلهم نازحين أشقياء، هم أنفسهم الذين يطاردونهم ويكرّرون على مسامعهم، منذ لحظات لجوئهم الأولى، بأنه غير مرحَّب بهم، وبأنه عليهم العودة إلى الحريق الذي هربوا منه... كأنهم هم الذين أشعلوه.
الإعلام: لماذا اهتم الإعلام اللبناني بحادثة السياسي البذيء، وألقى ظلالاً من الصمت على مداهمات الجيش مخيمات اللاجئين في عرسال؟ طبعاً، هناك السياسة، وهيمنة إعلامية. ولكن أيضا: هناك "الريت"، أي نسبة المشاهدة، لدى أكثر الوسائل جماهيرية الآن: التلفزيون والإنترْنتْ. مثل هدية، جاءت شتائم وبذاءات السياسي إياه، وعراضاته المسلحة. اجتاحت الفضاء الإعلامي وحوّلت أنظار اللبنانيين عن لوعات يومياتهم. فيما لو تيسّر نقل وقائع المداهمات، لكانت المشاهدات فقيرةً بإعلاناتها، غير مجدية في تجارتها الخبر. "الريت" سبب وجيه من أسباب التغاضي عن انتهاكات حقوق اللاجئين السوريين. لا أحد يهتم فعلاً. الجميع منشغلٌ بالتسلية والأكشن، بالتحشيد المذهبي والطائفي، بالكلمات الخارجة عن كل معاني السياسة والاجتماع، بالسباب، بالقبح، بالسفاهة. يدفعه فضوله إلى مشاهدة "المقامات" الشعبية تضرب بسيف لسانها؛ ينفِّس بذلك عن حرمانه، يعطي معنى لحياته ولو لحظات. هذا إذا لم يكن معجباً به، يرى في غزواته اللسانية إشارات الكاريزما والعنفوان. كأن الواحد يصنع الآخر: "الزعيم" وجمهوره. الزعيم يطوِّر السفاهة التي يتشوَّق إليها الجمهور، تصفيقاً وثناءً، فيجازيه بعيار أعلى، ليرتفع إلى مرتبةٍ بطوليةٍ تناسب توقه إلى التربّع على رأس طائفته.. وهكذا.