14 نوفمبر 2024
استنساخ "القفزة العظيمة إلى الأمام"
التاريخ خير معلم، لكنه معلم لا يرحم.. حقيقة عاينتها شعوب عديدة في العالم، على امتداد القرن العشرين كله تقريباً، وها هي تعود في مصر في القرن الحادي والعشرين. تعود بوجهها الكئيب، بعد أن وعتها شعوب أخرى وطوت صفحتها، وبعد أن تبرأت من سوءات ممارساتٍ وخياراتٍ سياسيةٍ استنزفت من حياة أبنائها عشرات السنين، فالأمم التي تتعلم في حياتها، وتعيد تجريب المجرّب، تبدو كما لو كانت من دون ذاكرة تاريخية. والإنسان، في حدود ما أعلم، هو الكائن الوحيد الذي يؤرّخ لنفسه، وهو بالتالي قادر، من خلال عبر التاريخ ودروسه، على تفادي خيبات الآخرين. وقديماً قالت العرب: "أخزى الله الرأي الدبري"، وهو الرأي الذي لا يهتدي إليه صاحبه إلا بعد وقوع المصيبة.
كتبت الصحافية الأميركية، آن آبلباوم، في كتابها "المجاعة الحمراء" عن سياسة الديكتاتور السوفيتي جوزيف ستالين: "في ربيع عام 1932 بدأ مسؤولون يائسون وقلقون على وظائفهم وحياتهم، كانوا يعلمون أن مجاعة جديدة قد تكون وشيكة، يجمعون الحبوب في أي مكانٍ يجدونه، وبأي طريقة يستطيعون. وحدثت عمليات مصادرة جماعية عبر كل الاتحاد السوفييتي. وفي أوكرانيا جرت عمليات المصادرة بكثافة". وحصدت المجاعة عدة ملايين. وأصر مراسل صحيفة نيويورك تايمز في الاتحاد السوفييتي آنذاك، والتر دورانتي، على زيف قصص المجاعة، وحصل على جائزة بوليتزر (1932) عن تقرير وصفته الصحيفة لاحقاً بأنه: "مضلّل تماماً". وبين عامي 1958 و1962 تم إخضاع الشعب الصيني لسياسة عنيفة أدّت
إلى وفاة ما يفوق 45 مليون شخص. وكتب المؤرخ الهولندي فرانك ديكوتير في كتاب له عن سياسة صانع هذه المأساة، ماو تسي تونغ، إنه (ماو) رغب في أن يجعل شعب الصين يسير وفقًا لخطته، ورغب في تغيير وظائف شعبه وحياتهم للوصول بالصين إلى مكانة أفضل، لكنه حتى يحسّن الأوضاع الخارجية للصين حطم حياة الشعب. كان للصينيين أسلوب حياة ووظائف ومنازل، لكنه أخذ منهم ذلك كله، "وأصبحت كل الأشياء في يده وبأمر منه فقط تسير الأوضاع، ولمن يرغب في الحصول على الطعام أو وسائل الحياة المتعددة عليه طاعته". وكان ماو تسي تونغ، بسبب رغبته في تحقيق معجزة اقتصادية يبرّر لنفسه كل الكوارث التي تسبب فيها اختياره، كما كان يستخدم كل وسائل الترهيب المادية والمعنوية، داخل الحزب الشيوعي الصيني وخارجه، لإسكات أصوات منتقديه، حتى وصل المنحدر إلى القاع.
ولكن اقتصاد "القفزة العظيمة" و"الأرقام القياسية" يعود ليكون خياراً رسمياً يستحضر الحزمة نفسها من الممارسات والأفكار. المفكر (الديبلوماسي) الباكستاني، نجم الثاقب خان، يلخص أهم ملامح هذا التصور في عبارته المدهشة: "الدولة القاسية" و"القائد الكاريزما". وقد شهد العام 2016 جدلاً كبيراً في الصين التي لم تزل محكومة بالحزب الشيوعي، عندما تم تشييد تمثال كبير لماو تسي تونغ في منطقة شهدت "مجاعة" بسبب القسوة المفرطة التي اتسمت بها إجراءات "القفزة العظيمة إلى الأمام". وفي رد فعل نادر، اضطرت الحكومة الصينية إلى إزالة التمثال بسبب الرفض الشعبي.
وعلى الرغم من أن الصين تبرّأت، في صمت، عملياً، من هذه الحزمة من الأفكار والممارسات الماوية، بالتحوّل الاقتصادي شبه التام، عدولاً عن أفكار ماو تسي تونغ. وهي كذلك تبرّأت نظرياً بالاعتراف بأن تجربة ماو "شابتها أخطاء"، وهي لغةٌ يندر أن تستخدمها الأحزاب الشمولية، فإن هذا المسار يبدو خياراً مفضلاً في مصر. ولا تكاد النتائج التي ترتبت على التحولات الاقتصادية الكبيرة خلال السنوات القليلة الماضية في مصر تثير شفقة "الدولة القاسية"، حيث المعاناة التي تعكسها مؤشرات أرقام الفقر أو معدلات البطالة أو حالات الانتحار، أو ... لا تكاد تؤخذ في الاعتبار، إيماناً بوهم تجرّعت شعوب أخرى قبلنا مراراته، وهم اسمه "ثمن التقدم"!
ومن الطبيعي أن يكون للتقدّم ثمن من العرق وبذل الجهد، ولكن الجوع والموت لا يجوز أن يكونا بين مفردات "فاتورة" النهضة. ولا أحد يملك، حاكماً كان أو محكوماً، أن يقرّر التضحية بجيل أو جيلين لأجل حل أي مشكلة، سياسية أو اقتصادية، فالحق في الحياة والكرامة الإنسانية كلاهما منحة من الله سبحانه وتعالى. ولا يجوز لحاكم، بأي معيار أخلاقي، أو تبرير سياسي، أو خطاب وطني، إهدار أيٍّ منهما.
ولكن اقتصاد "القفزة العظيمة" و"الأرقام القياسية" يعود ليكون خياراً رسمياً يستحضر الحزمة نفسها من الممارسات والأفكار. المفكر (الديبلوماسي) الباكستاني، نجم الثاقب خان، يلخص أهم ملامح هذا التصور في عبارته المدهشة: "الدولة القاسية" و"القائد الكاريزما". وقد شهد العام 2016 جدلاً كبيراً في الصين التي لم تزل محكومة بالحزب الشيوعي، عندما تم تشييد تمثال كبير لماو تسي تونغ في منطقة شهدت "مجاعة" بسبب القسوة المفرطة التي اتسمت بها إجراءات "القفزة العظيمة إلى الأمام". وفي رد فعل نادر، اضطرت الحكومة الصينية إلى إزالة التمثال بسبب الرفض الشعبي.
وعلى الرغم من أن الصين تبرّأت، في صمت، عملياً، من هذه الحزمة من الأفكار والممارسات الماوية، بالتحوّل الاقتصادي شبه التام، عدولاً عن أفكار ماو تسي تونغ. وهي كذلك تبرّأت نظرياً بالاعتراف بأن تجربة ماو "شابتها أخطاء"، وهي لغةٌ يندر أن تستخدمها الأحزاب الشمولية، فإن هذا المسار يبدو خياراً مفضلاً في مصر. ولا تكاد النتائج التي ترتبت على التحولات الاقتصادية الكبيرة خلال السنوات القليلة الماضية في مصر تثير شفقة "الدولة القاسية"، حيث المعاناة التي تعكسها مؤشرات أرقام الفقر أو معدلات البطالة أو حالات الانتحار، أو ... لا تكاد تؤخذ في الاعتبار، إيماناً بوهم تجرّعت شعوب أخرى قبلنا مراراته، وهم اسمه "ثمن التقدم"!
ومن الطبيعي أن يكون للتقدّم ثمن من العرق وبذل الجهد، ولكن الجوع والموت لا يجوز أن يكونا بين مفردات "فاتورة" النهضة. ولا أحد يملك، حاكماً كان أو محكوماً، أن يقرّر التضحية بجيل أو جيلين لأجل حل أي مشكلة، سياسية أو اقتصادية، فالحق في الحياة والكرامة الإنسانية كلاهما منحة من الله سبحانه وتعالى. ولا يجوز لحاكم، بأي معيار أخلاقي، أو تبرير سياسي، أو خطاب وطني، إهدار أيٍّ منهما.