20 مايو 2021
استحقاقات إضراب الأسرى المغيّبة
مع دخوله شهره الثاني، يطرح إضراب الحرية والكرامة الذي يقوم به مئات الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، جملةً من الاستحقاقات على المستويين، الرسمي والشعبي، الفلسطينيين، كما أنه يشكّل الأرضية المناسبة والمناخ لصياغة استراتيجية وطنية حقيقية، تأخرنا كثيرا في إخراجها إلى النور على الرغم من إلحاحيتها.
لم يعد المطلوب إسناد الأسرى بالأشكال التقليدية، وتحقيق مطالب آنية، تتعلق بمطالبهم المباشرة والحياتية من إدارة السجون (على أهميتها)، لأن هذا سيجعلنا نتخلف كثيرا عن الخطوات التي خطاها الأسرى.
المطلوب الآن هو استثمار الحالة الشعبية التي وفرها الإضراب والاهتمام الدولي والإجماع المتزايد بشأن قضيتهم العادلة، من أجل إنضاج استراتيجية وطنية قانونية لإنقاذهم، ودفع قضيتهم إلى الأمام، والتوازي في الفعل مع مستوى التضحية التي يقدمونها.
لا تنبع الأسباب العميقة خلف الإضراب من شروط الحياة السيئة والمهينة التي يلقاها الأسرى (بحد ذاتها)، بل من الأساس (القانوني) غير السوي الذي تفرضه إسرائيل، وتتعامل معهم وفقه، والذي يتنافى مع صفتهم الحقيقية أسرى حرب ومقاتلين من أجل الحرية، ويحرمهم من التمتع بالحقوق المحفوظة لهم في الاتفاقيات والمرجعيات الدولية والإنسانية المتعارف عليها.
ليس غياب الاستراتيجية الواضحة والواقعية فيما يخص قضية الأسرى وليد المرحلة، بل ربما هو علامة فارقة في تاريخ الثورة الفلسطينية التي نظرت إليهم جيشاً من المقاتلين، وإلى معاناتهم ووجودهم في الأسر ثمناً لابد من دفعه ويمكن احتماله، وأيضا بسبب طغيان الشعار والجملة الثورية والخطاب الحماسي التمجيدي على حساب البرنامج والخطة، ومحاولة البحث عن أفق قانوني، يحسن شروط اعتقالهم ويفتح الباب أمام الإفراج عنهم، وكسر الاحتكار والأحادية المستندة إلى القراءة الإسرائيلية ومفاهيمها ومنظوماتها القانونية والأخلاقية الخاصة في التعامل معهم، ناهيك عن إنصافهم معنوياً، ورد الاعتبار لهم، وإخراجهم من خانة المخربين والإرهابيين إلى صفة مقاتلي الحرية وأسرى الحرب.
واجه الأسرى تاريخيا هذا الإجحاف من خلال صياغة استراتيجية نضالية داخلية، تنطلق من خصوصية وضعهم وإمكاناتهم وأولوياتهم الخاصة، وفي سياق صراعهم مع مديرية السجون. هذا الصراع الذي دمجوا فيه، بشكل فذ وعملي، بين شروط الاعتقال والنضال المباشر مع إدارة السجن من جهة وما بين هويتهم السياسية وصفتهم القانونية من جهة أخرى، بحيث أعطوا النضال الاعتقالي اليومي داخل جدران الأسر، والذي أخذ شكلا مطلبيا في ظاهره، بعدا استراتيجيا وقانونيا، وقسموا أشكال النضال وأهدافه إلى مراحل تبدأ بتحسين شروط الحياة، وصولا إلى فرض الاعتراف بهم أسرى حرب. ولكن، وبما أن هذا الاعتراف يتطلب إنجازاتٍ على المستويين، السياسي والدبلوماسي، ويسبقه اعتراف بمنظمة التحرير، فإنهم سعوا إلى فرض هذا الاعتراف، أمراً واقعاً، من خلال إبراز هويتهم مناضلين وجزءاً من نسيج نضالي لحركة تحرّر تقودهم، وتقود نضالهم، وترجمة هذا التوجه في سلوكهم اليومي، وهرمية تنظيمهم وتأطيرهم الداخلي، وتفاصيل حياتهم القائمة جميعها على أساسٍ سياسيٍّ فصائلي كفاحي.
كان يمكن لهذا الشرط الذاتي الذي قطعه الأسرى أن يكتمل، وأن يتكلل بتحقيق غايتهم، لو أن اتفاق أوسلو التفت إلى هذا المطلب، ونظر إليه من الزاوية نفسها، لكن ما حصل أجهض هذه المساعي، وبدّد ما حققه الأسرى، وكرّس وحدانية إسرائيل في تحديد شكل حياة الأسرى وتعريفهم.
نظرت إسرائيل إلى الأسرى إرهابيين ومخربين، وتحت هذا التصنيف المنسجم مع تعريفها ذاتها، استباحتهم، وفصلت لهم نظاماً قانونياً وإدارياً، يعزّز من روايتها (على الرغم من تنافيه مع القانون الدولي)، وما اتفاق أوسلو إلا تكريس لهذا الحال. وبدل أن تتراجع، وأن تعيد صياغة خطابها وسلوكها تجاه الأسرى، شعرت إسرائيل بأنها أخذت من هذه الاتفاقيات ضوءاً أخضر للإمعان في سياساتها وتعميقها.
طوال عقدين، لم تفلح السلطة الوطنية في كسر هذه المعادلة، وبقيت قضية الأسرى خاضعةً للمساومات التفاوضية المحكومة بسقف موازين القوى المختل، ولفتات حسن النوايا الإسرائيلية، ورشوة تقدّم للشارع من أجل تسويق اتفاقيات مرحلية.
لم يرقَ الأداء الفلسطيني، في تعامله مع هذه القضية، إلى مستوى التحدّي الذي تفرضه، ونظر إليها من الزاوية الإنسانية، تماما كما ترغب إسرائيل، ولم يجر الالتفات بشكل كاف إلى أبعادها السياسية والقانونية، وإن أي إنجاز يمكن تحقيقه فيها سينسحب ضمنا على القضية الفلسطينية ككل، وسينسف الرواية الإسرائيلية للصراع، ويعزّز الرواية الفلسطينية.
والآن، بعد شهر من الإضراب عن الطعام، تعاد هذه القضية إلى صدارة الأحداث، والاهتمام المحلي والدولي، وتعاد أيضا الأسئلة الكبرى عن الفشل، وضرورة استثمار اللحظة، لتجاوزه من خلال البحث في جذر المشكلة، والسبب الذي قاد إلى هذا التردّي والدائرة المفرغة في العلاقة مع إدارة السجون، والتي ستعيد إنتاج هذه الشروط السيئة كل مرة من جديد، طالما أنها رهينة للشروط نفسها.
أمامنا وأمام السلطة الفلسطينية فرصة تاريخية، من خلال هذا الإضراب والاعتراف بدولة فلسطين عضواً مراقباً، لتصويب هذا الخلل التاريخي الذي أنتجه اتفاق أوسلو، وكسر دائرة الاحتكار الإسرائيلي لهذا الملف، ووقف التعامل معه، من خلال منظومتها الأمنية والقانونية والأخلاقية، بعيدا عن القانون الدولي الذي يعترف بالأسرى الفلسطينيين أسرى حرب ورهائن.
يتطلب هذا التحدّي قراراً سياسياً وإرادةً تنطلق من تحدّي الرواية الإسرائيلية، لا التساوق معها، والعمل تحت سقفها، والسعي إلى فتح جبهة قانونية في المؤسسات الدولية ضدها، وتدويل قضية الأسرى وتحريرها من الاحتكار الإسرائيلي، وهذا ما لا نلمسه للأسف الشديد حتى الآن.
لم يعد المطلوب إسناد الأسرى بالأشكال التقليدية، وتحقيق مطالب آنية، تتعلق بمطالبهم المباشرة والحياتية من إدارة السجون (على أهميتها)، لأن هذا سيجعلنا نتخلف كثيرا عن الخطوات التي خطاها الأسرى.
المطلوب الآن هو استثمار الحالة الشعبية التي وفرها الإضراب والاهتمام الدولي والإجماع المتزايد بشأن قضيتهم العادلة، من أجل إنضاج استراتيجية وطنية قانونية لإنقاذهم، ودفع قضيتهم إلى الأمام، والتوازي في الفعل مع مستوى التضحية التي يقدمونها.
لا تنبع الأسباب العميقة خلف الإضراب من شروط الحياة السيئة والمهينة التي يلقاها الأسرى (بحد ذاتها)، بل من الأساس (القانوني) غير السوي الذي تفرضه إسرائيل، وتتعامل معهم وفقه، والذي يتنافى مع صفتهم الحقيقية أسرى حرب ومقاتلين من أجل الحرية، ويحرمهم من التمتع بالحقوق المحفوظة لهم في الاتفاقيات والمرجعيات الدولية والإنسانية المتعارف عليها.
ليس غياب الاستراتيجية الواضحة والواقعية فيما يخص قضية الأسرى وليد المرحلة، بل ربما هو علامة فارقة في تاريخ الثورة الفلسطينية التي نظرت إليهم جيشاً من المقاتلين، وإلى معاناتهم ووجودهم في الأسر ثمناً لابد من دفعه ويمكن احتماله، وأيضا بسبب طغيان الشعار والجملة الثورية والخطاب الحماسي التمجيدي على حساب البرنامج والخطة، ومحاولة البحث عن أفق قانوني، يحسن شروط اعتقالهم ويفتح الباب أمام الإفراج عنهم، وكسر الاحتكار والأحادية المستندة إلى القراءة الإسرائيلية ومفاهيمها ومنظوماتها القانونية والأخلاقية الخاصة في التعامل معهم، ناهيك عن إنصافهم معنوياً، ورد الاعتبار لهم، وإخراجهم من خانة المخربين والإرهابيين إلى صفة مقاتلي الحرية وأسرى الحرب.
واجه الأسرى تاريخيا هذا الإجحاف من خلال صياغة استراتيجية نضالية داخلية، تنطلق من خصوصية وضعهم وإمكاناتهم وأولوياتهم الخاصة، وفي سياق صراعهم مع مديرية السجون. هذا الصراع الذي دمجوا فيه، بشكل فذ وعملي، بين شروط الاعتقال والنضال المباشر مع إدارة السجن من جهة وما بين هويتهم السياسية وصفتهم القانونية من جهة أخرى، بحيث أعطوا النضال الاعتقالي اليومي داخل جدران الأسر، والذي أخذ شكلا مطلبيا في ظاهره، بعدا استراتيجيا وقانونيا، وقسموا أشكال النضال وأهدافه إلى مراحل تبدأ بتحسين شروط الحياة، وصولا إلى فرض الاعتراف بهم أسرى حرب. ولكن، وبما أن هذا الاعتراف يتطلب إنجازاتٍ على المستويين، السياسي والدبلوماسي، ويسبقه اعتراف بمنظمة التحرير، فإنهم سعوا إلى فرض هذا الاعتراف، أمراً واقعاً، من خلال إبراز هويتهم مناضلين وجزءاً من نسيج نضالي لحركة تحرّر تقودهم، وتقود نضالهم، وترجمة هذا التوجه في سلوكهم اليومي، وهرمية تنظيمهم وتأطيرهم الداخلي، وتفاصيل حياتهم القائمة جميعها على أساسٍ سياسيٍّ فصائلي كفاحي.
كان يمكن لهذا الشرط الذاتي الذي قطعه الأسرى أن يكتمل، وأن يتكلل بتحقيق غايتهم، لو أن اتفاق أوسلو التفت إلى هذا المطلب، ونظر إليه من الزاوية نفسها، لكن ما حصل أجهض هذه المساعي، وبدّد ما حققه الأسرى، وكرّس وحدانية إسرائيل في تحديد شكل حياة الأسرى وتعريفهم.
نظرت إسرائيل إلى الأسرى إرهابيين ومخربين، وتحت هذا التصنيف المنسجم مع تعريفها ذاتها، استباحتهم، وفصلت لهم نظاماً قانونياً وإدارياً، يعزّز من روايتها (على الرغم من تنافيه مع القانون الدولي)، وما اتفاق أوسلو إلا تكريس لهذا الحال. وبدل أن تتراجع، وأن تعيد صياغة خطابها وسلوكها تجاه الأسرى، شعرت إسرائيل بأنها أخذت من هذه الاتفاقيات ضوءاً أخضر للإمعان في سياساتها وتعميقها.
طوال عقدين، لم تفلح السلطة الوطنية في كسر هذه المعادلة، وبقيت قضية الأسرى خاضعةً للمساومات التفاوضية المحكومة بسقف موازين القوى المختل، ولفتات حسن النوايا الإسرائيلية، ورشوة تقدّم للشارع من أجل تسويق اتفاقيات مرحلية.
لم يرقَ الأداء الفلسطيني، في تعامله مع هذه القضية، إلى مستوى التحدّي الذي تفرضه، ونظر إليها من الزاوية الإنسانية، تماما كما ترغب إسرائيل، ولم يجر الالتفات بشكل كاف إلى أبعادها السياسية والقانونية، وإن أي إنجاز يمكن تحقيقه فيها سينسحب ضمنا على القضية الفلسطينية ككل، وسينسف الرواية الإسرائيلية للصراع، ويعزّز الرواية الفلسطينية.
والآن، بعد شهر من الإضراب عن الطعام، تعاد هذه القضية إلى صدارة الأحداث، والاهتمام المحلي والدولي، وتعاد أيضا الأسئلة الكبرى عن الفشل، وضرورة استثمار اللحظة، لتجاوزه من خلال البحث في جذر المشكلة، والسبب الذي قاد إلى هذا التردّي والدائرة المفرغة في العلاقة مع إدارة السجون، والتي ستعيد إنتاج هذه الشروط السيئة كل مرة من جديد، طالما أنها رهينة للشروط نفسها.
أمامنا وأمام السلطة الفلسطينية فرصة تاريخية، من خلال هذا الإضراب والاعتراف بدولة فلسطين عضواً مراقباً، لتصويب هذا الخلل التاريخي الذي أنتجه اتفاق أوسلو، وكسر دائرة الاحتكار الإسرائيلي لهذا الملف، ووقف التعامل معه، من خلال منظومتها الأمنية والقانونية والأخلاقية، بعيدا عن القانون الدولي الذي يعترف بالأسرى الفلسطينيين أسرى حرب ورهائن.
يتطلب هذا التحدّي قراراً سياسياً وإرادةً تنطلق من تحدّي الرواية الإسرائيلية، لا التساوق معها، والعمل تحت سقفها، والسعي إلى فتح جبهة قانونية في المؤسسات الدولية ضدها، وتدويل قضية الأسرى وتحريرها من الاحتكار الإسرائيلي، وهذا ما لا نلمسه للأسف الشديد حتى الآن.
مقالات أخرى
11 ابريل 2021
11 فبراير 2021
14 يناير 2021