اتحاد الشغل التونسي والمنحى الشمولي
في ظل حالةٍ من التجاذب السياسي الحاد الذي تشهده تونس، وتصاعد الصراعات التي تشق النخبة السياسية ومواقع صناعة القرار، يعرف الاتحاد العام التونسي للشغل حالة من التوتر الداخلي والجدل الحاد، في ظل الرغبة المعلنة التي أبدتها القيادة الحالية للمنظمة النقابية الكبرى، والمتعلقة بتعديل قانونها الأساسي، وتحديدا الفصل العشرين منه، بما يسمح لهذه القيادات بتمديد بقائها على رأس المنظمة إلى أجل غير مسمى.
كانت فكرة تعديل الفصل المتعلق بتحديد عضوية المكتب التنفيذي للمنظمة بمدة خمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة تتردد في أروقة اتحاد الشغل منذ ما قبل الثورة، فالجميع يعلم الملابسات التي أدت إلى تعديل هذا القانون سنة 2002، وارتباطها بالصراع الذي أدّى إلى إطاحة الأمين العام السابق، إسماعيل السحباني، من منصبه ومحاكمته لاحقا أمام القضاء بتهم الفساد. وفي ظل حالة من الضغط النقابي العام قبلت القيادات النافذة في المنظمة أن تعدّل القانون الذي يحدّد استمرارها في القيادة بفترتين، من دون أن ينفي هذا أن أمين عام المنظمة حينها، عبد السلام جراد، كان يسعى فعليا إلى تعديل هذا القانون، والاستمرار على رأس المنظمة، خصوصا أن مدة استمراره في المكتب التنفيذي كانت تنتهي فعليا سنة 2011، لولا اندلاع الثورة التونسية التي قطعت الطريق على أحلامه، وأفضت إلى صعود قيادات أخرى على رأس المنظمة في مؤتمر طبرقة سنة 2011.
صراع بين المتنازعين من قيادات المنظمة النقابية تغلب عليه المصلحة الشخصية
ومن المفارقات أن القيادات الحالية التي ترغب في تغيير القانون للاستمرار على رأس المنظمة كانت هي ذاتها من الرافضين لتعديله زمن عبد السلام جراد، وهو ما يكشف نوعا من الممارسة الانتهازية الغريبة، حيث تمت الاستفادة من القانون، للوصول إلى المواقع القيادية الأولى، واليوم تتم محاولة تغييره، في نوع من التنكر لأهم مبدأ ديمقراطي، وهو التداول على المواقع القيادية.
واقعيا، تتمتع القيادة الحالية بدعم عدد واسع من النقابات التي يمكنها أن تؤيد توجهها نحو مؤتمر استثنائي غير انتخابي، وقد بدأ التمهيد لهذا التوجه من خلال حملة إعلامية، قادها الأمين العام الحالي، نور الدين الطبوبي، حاول فيها توجيه الأنظار نحو معركةٍ مفترضةٍ ضد ما سماه التصدّي للمؤامرات الإخوانية وحماية النمط المجتمعي والحفاظ على الديمقراطية. وفي أسلوب مستلهم من تقنيات الأنظمة الشمولية التي ترتبط القيادة الحالية للاتحاد وفصائلها السياسية بعلاقات وثيقة معها، مثل النظام السوري، بدأ تسويق فكرة أن المعركة القادمة ضد الرجعية تستلزم التمديد للقيادة الحالية القادرة على رفع التحديات وخوض الصراعات، وغير ذلك من الشعارات التي تتكرر في الخطاب السياسي الشمولي.
القيادات الحالية التي ترغب في تغيير القانون للاستمرار على رأس الإتحاد هي ذاتها من الرافضين لتعديله سابقا
وفي مقابل هذا التوجه القوي لدى القيادات النافذة في المنظمة النقابية نحو تعديل القانون الأساسي للاستمرار في قيادتها من دون تسقيف زمني، تتزعم الجامعة العامة للتعليم الثانوي، وهي من أقوى النقابات المنضوية تحت الاتحاد العام التونسي للشغل، بالإضافة إلى جهات نقابية أخرى الحملة المضادة للتمديد والتوريث. وقد نظمت، يوم 18 أغسطس/ آب الحالي، وقفة احتجاجية أمام المقر المركزي للمنظمة، تم خلالها رفع شعارات من قبيل "لا لمؤتمر استثنائي غير انتخابي" و"الانقلاب لن يمر والنضال مستمر".
المشكل أن حالة الصراع بين الطرفين المتنازعين حاليا من قيادات المنظمة النقابية تغلب عليه المصلحة الشخصية أكثر مما هو خلافٌ بين توجهات سياسية أو تيارات إيديولوجية، ففي الشق المنادي بالتمديد تهيمن شخصياتٌ تنتمي للفصائل اليسارية والقومية، وهو ما نجده في الطرف المقابل، وبالتالي فإن تبادل الاتهامات بخدمة الأعداء والأجندات الرجعية هي مجرّد أدوات دعائية يتبادلها الخصوم.
المنظمة ستفقد كثيرا من رصيدها الأخلاقي والمعنوي إذا أصرّت على مسار شمولي يمدّد للقيادات
وبعيدا عن منطق الاتهامات والمناكفات، فإن تعديل الفصل 20 من القانون الأساسي لاتحاد الشغل سيكون تعبيرا عن حالةٍ من الردة عن المسار العام للديمقراطية التونسية، فالأحزاب والمنظمات الكبرى لم تستوعب منطق الفكرة الديمقراطية التي لا تتعلق فحسب بالجانب الشكلي، أي الانتخابات وصناديق الاقتراع، وإنما هي في جوهرها تقوم على فكرة التجدّد الداخلي للقيادات السياسية والاجتماعية التي تتداول على إدارة الشأن العام، ولا يتحقق هذا إلا من خلال ضمان التداول السلمي على المواقع القيادية. والأكيد أن المنظمة التي نالت جائزة نوبل للسلام سنة 2014 ستفقد كثيرا من رصيدها الأخلاقي والمعنوي، إذا أصرّت على الانخراط ضمن مسار شمولي يمدّد للقيادات، ويمنحها الفرصة للبقاء غير المحدود في مواقعها، ثم البحث عمن تورّثه، وهو ما يناقض منطق الديمقراطية ومدنية الدولة ومجتمع الحقوق والحريات الذي تزعم القيادات الحالية للاتحاد أنها بصدد الدفاع عنها، فما جدوى أن نسمع خطابا ديمقراطيا حداثيا يدافع عن الحريات، فيما الممارسات شمولية استبدادية متخلفة.