07 نوفمبر 2024
ابتسامتها الضائعة في ذاكرتي
مواقف يومية هامشية تمر بنا، فتُعلمنا ما لا نجتهد في تعلمه قصداً في الكتب والمدارس والجامعات. والمثير أن ما تُعلمنا إياه تلك المواقف مجاناً، لم نكتشفه إلا بعد مغادرتنا إياه، وربما لن نكتشفه أبداً.
قبل سنوات قليلة، واجهت مشكلة صغيرة في جهاز آيباد الذي كان رفيقي الدائم؛ مخزن ذكرياتي وأرشيف صوري ومكتبة كتبي المفضلة وكرّاسة الأفكار والقصائد والمقالات قبل النشر. وبسبب خللٍ ما، ضاع كل شيء فجأة، فشعرت أن الدنيا كلها قد ضاعت من بين يدي.
مرت علي ساعات، وأيام صعبة جداً، كنت أفكر خلالها بكل شيء ضاع، واستهلكت معظم وقتي في البحث عن حلول. طلبت من كلّ من أتوسم فيه التعامل الجيد من أجهزة آبل أن يساعدني، كما طلبت المساعدة، حتى من المتابعين لي في وسائل التواصل الاجتماعي. وعندما فشلت في استعادة ما فقدته، بعد أن جربت كل الحلول المقترحة من قبل كل من حاول مساعدتي، لجأت إلى ما كنت أتجنب اللجوء إليه؛ الاستعانة بخبراء صيانة أجهزة آبل في المحلات، حتى أنني تركت جهازي، بكل ما يحتوي من أسرار شخصية وصور خاصة وأرقام، من بينها أرقامي المصرفية السرية، عدة أيام، لدى أحد تلك المحلات التي كنت أتعامل معها أول مرة. لكنني، وبعد مرور خمسة أيام تقريباً على بدء الضياع الكبير الذي أرهقني نفسيا وجسديا، اقتنعت أنني ودّعت ذاكرتي الإلكترونية الضخمة إلى الأبد، وأن لا سبيل إلى استعادتها، مهما حاولت.
كنت قد بدأت كتابة مقال عن رواية جميلة على "آيباد"، عندما اسودّت شاشته أمامي فجأة، فاسودت الدنيا أمامي! وكنت لاحقا كلما تذكرت رسالةً تلقيتها من شخصٍ ما أو صورةٍ من الصعب التقاط مثلها مجدداً، أو قصيدة لم أنشرها بعد، ولا أظن أنني سأقدر على كتابتها من جديد بالدفقة الأولى نفسها التي تحققت فيها، أشعر بوجع خفي يلوب بين أحشائي الداخلية، قبل أن يستقر تحت ضلوعي، ويبقى هناك فترة تمتد بامتداد الذكريات العالقة كمشاهد غائمة ومشوشة! وقد تضاعف حجم ذلك الوجع، عندما اكتشفت أن إحدى مفقوداتي التي لا يمكن تعويضها أبداً صورة أثيرة لي جمعتني مع والدتي رحمها الله في أثناء وجودها في غرفة العناية الفائقة، وبدت فيها، وهي تبتسم لي ابتسامة ساحرة. ولا أظن أن عدسة الكاميرا قد نجحت في التقاط ابتسامة لتلك السيدة التي كانت ترى أن من العيب الابتسام في الصور الفوتوغرافية! تحوّل الألم المضاعف، وأنا أتذكر ابتسامتها الضائعة، إلى حريق سرى في عظامي، وكان يتجدّد كلما تذكرتها من جديد.
صحيح أنني أصلحت جهاز آيباد لاحقا، وبدأت بتكوين ذاكرة جديدة فيه، لكنني لم أنس ذاكرتي القديمة التي ابتلعها على حين غرة مني، كما أن الشعور بالقلق إزاء كل ما أضعه لاحقاً في ذلك الجهاز حرمني من عفويتي في الكتابة والتصوير والاسترسال في القراءة، وأشعرني بضرورة الانتباه الدائم لكل شيء أفعله، ليس من خلال آيبادي الذي خدعني وحسب. ولكن، أيضا من خلال كل الأجهزة التي أتعامل فيها، وبها في البيت والعمل! إلا أن الأيام، بانشغالاتها وضغوط العمل فيها، تهضم كل حذر مفتعل وتذيبه تدريجياً، فنعود إلى عفوية البدايات، استعداداً لتكرار الأخطاء ربما.
قبل يومين، تكرر الخطأ القديم، وهذه المرة في جهاز آيفون. ومن جديد، ضاع كل شيء، ومع أن ما ضاع، هذه المرة، يفوق، في حجمه، ما ضاع في المرة السابقة بكثير، إلا أن ما فاجأني هو شعور جديد مريح. حاولت الإصلاح ما استطعت، بلا حرقة ولا أسف ولا قلق، بل ببرود شديد، ولا مبالاة أدهشت من يعرفني جيداً. ولا أدري كيف انتقت لي ذاكرتي بعض المحفوظات السيئة مما ضاع فعلا، فحمدت الله أن الخلل قد خلصني مما كنت لا أقوى على التخلص منه، بإرادتي الحرة وحدها.
هل تعلمت من الموقف السابق أن ما ضاع حقاً هو ما ساهمت، أنا شخصياً، بضياعه من وقتي وصحتي وراحتي، عبر تضخيم إحساسي بخسارته؟ أم أنني تدربت على الفقد، وتعلمت كيفية تقبله، بعد أن فقدت تلك الابتسامة الساحرة نهائياً؟ ربما..، وربما أدركت، في النهاية، أنني لم أفقد فعلا سوى ما يمكن فقدانه، وأن ما نريد الاحتفاظ به سيبقى، حتى إن اختفت مادته.. فابتسامة أمي ما زالت تسكن وجداني، وتحتل مساحتها الكافية في ذاكرتي، ولم أعد بحاجةٍ لاستعادتها على شكل صورة فوتوغرافية.
قبل سنوات قليلة، واجهت مشكلة صغيرة في جهاز آيباد الذي كان رفيقي الدائم؛ مخزن ذكرياتي وأرشيف صوري ومكتبة كتبي المفضلة وكرّاسة الأفكار والقصائد والمقالات قبل النشر. وبسبب خللٍ ما، ضاع كل شيء فجأة، فشعرت أن الدنيا كلها قد ضاعت من بين يدي.
مرت علي ساعات، وأيام صعبة جداً، كنت أفكر خلالها بكل شيء ضاع، واستهلكت معظم وقتي في البحث عن حلول. طلبت من كلّ من أتوسم فيه التعامل الجيد من أجهزة آبل أن يساعدني، كما طلبت المساعدة، حتى من المتابعين لي في وسائل التواصل الاجتماعي. وعندما فشلت في استعادة ما فقدته، بعد أن جربت كل الحلول المقترحة من قبل كل من حاول مساعدتي، لجأت إلى ما كنت أتجنب اللجوء إليه؛ الاستعانة بخبراء صيانة أجهزة آبل في المحلات، حتى أنني تركت جهازي، بكل ما يحتوي من أسرار شخصية وصور خاصة وأرقام، من بينها أرقامي المصرفية السرية، عدة أيام، لدى أحد تلك المحلات التي كنت أتعامل معها أول مرة. لكنني، وبعد مرور خمسة أيام تقريباً على بدء الضياع الكبير الذي أرهقني نفسيا وجسديا، اقتنعت أنني ودّعت ذاكرتي الإلكترونية الضخمة إلى الأبد، وأن لا سبيل إلى استعادتها، مهما حاولت.
كنت قد بدأت كتابة مقال عن رواية جميلة على "آيباد"، عندما اسودّت شاشته أمامي فجأة، فاسودت الدنيا أمامي! وكنت لاحقا كلما تذكرت رسالةً تلقيتها من شخصٍ ما أو صورةٍ من الصعب التقاط مثلها مجدداً، أو قصيدة لم أنشرها بعد، ولا أظن أنني سأقدر على كتابتها من جديد بالدفقة الأولى نفسها التي تحققت فيها، أشعر بوجع خفي يلوب بين أحشائي الداخلية، قبل أن يستقر تحت ضلوعي، ويبقى هناك فترة تمتد بامتداد الذكريات العالقة كمشاهد غائمة ومشوشة! وقد تضاعف حجم ذلك الوجع، عندما اكتشفت أن إحدى مفقوداتي التي لا يمكن تعويضها أبداً صورة أثيرة لي جمعتني مع والدتي رحمها الله في أثناء وجودها في غرفة العناية الفائقة، وبدت فيها، وهي تبتسم لي ابتسامة ساحرة. ولا أظن أن عدسة الكاميرا قد نجحت في التقاط ابتسامة لتلك السيدة التي كانت ترى أن من العيب الابتسام في الصور الفوتوغرافية! تحوّل الألم المضاعف، وأنا أتذكر ابتسامتها الضائعة، إلى حريق سرى في عظامي، وكان يتجدّد كلما تذكرتها من جديد.
صحيح أنني أصلحت جهاز آيباد لاحقا، وبدأت بتكوين ذاكرة جديدة فيه، لكنني لم أنس ذاكرتي القديمة التي ابتلعها على حين غرة مني، كما أن الشعور بالقلق إزاء كل ما أضعه لاحقاً في ذلك الجهاز حرمني من عفويتي في الكتابة والتصوير والاسترسال في القراءة، وأشعرني بضرورة الانتباه الدائم لكل شيء أفعله، ليس من خلال آيبادي الذي خدعني وحسب. ولكن، أيضا من خلال كل الأجهزة التي أتعامل فيها، وبها في البيت والعمل! إلا أن الأيام، بانشغالاتها وضغوط العمل فيها، تهضم كل حذر مفتعل وتذيبه تدريجياً، فنعود إلى عفوية البدايات، استعداداً لتكرار الأخطاء ربما.
قبل يومين، تكرر الخطأ القديم، وهذه المرة في جهاز آيفون. ومن جديد، ضاع كل شيء، ومع أن ما ضاع، هذه المرة، يفوق، في حجمه، ما ضاع في المرة السابقة بكثير، إلا أن ما فاجأني هو شعور جديد مريح. حاولت الإصلاح ما استطعت، بلا حرقة ولا أسف ولا قلق، بل ببرود شديد، ولا مبالاة أدهشت من يعرفني جيداً. ولا أدري كيف انتقت لي ذاكرتي بعض المحفوظات السيئة مما ضاع فعلا، فحمدت الله أن الخلل قد خلصني مما كنت لا أقوى على التخلص منه، بإرادتي الحرة وحدها.
هل تعلمت من الموقف السابق أن ما ضاع حقاً هو ما ساهمت، أنا شخصياً، بضياعه من وقتي وصحتي وراحتي، عبر تضخيم إحساسي بخسارته؟ أم أنني تدربت على الفقد، وتعلمت كيفية تقبله، بعد أن فقدت تلك الابتسامة الساحرة نهائياً؟ ربما..، وربما أدركت، في النهاية، أنني لم أفقد فعلا سوى ما يمكن فقدانه، وأن ما نريد الاحتفاظ به سيبقى، حتى إن اختفت مادته.. فابتسامة أمي ما زالت تسكن وجداني، وتحتل مساحتها الكافية في ذاكرتي، ولم أعد بحاجةٍ لاستعادتها على شكل صورة فوتوغرافية.