مغادرة مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون، كانت متوقعة. الرئيس دونالد ترامب باغت واشنطن بها بالتوقيت والأسلوب، حولها من استقالة إلى إقالة، من خروج آن أوانه إلى طرد. طبختها وُضعت على النار منذ أشهر، منذ أن بدأ التضارب بين الرجلين يتبلور مع قمة ترامب وزعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون، في سنغافورة. ثم أخذ يكبر مع مماطلة الرئيس بتطبيق عقوبات الكونغرس الأخيرة ضد موسكو. بعدها، أخذ جرعة من الزخم مع التراجع عن توجيه ضربة لإيران، كرد على إسقاط الطائرة الأميركية المسيرة قرب مضيق هرمز.
منذ ذلك الوقت، لوحظ أنّ البيت الأبيض بدأ في تهميش بولتون. خلال الحديث وتوالي الإشارات عن احتمال حصول لقاء بين الرئيس ترامب والرئيس الإيراني حسن روحاني، غاب أو جرى تغييب بولتون عن الصورة. لا تصريح صدر عنه ولا مشاركة في التمهيد لمثل هذا السيناريو الذي أعطى ترامب أكثر من إشارة على المضي به. بدا وكأن بولتون ابتعد عن الموضوع، أو جرى إبعاده عنه.
وبقي الأمر كذلك إلى أن برز الخلاف إلى السطح، أواخر الأسبوع الماضي، مع دعوة حركة "طالبان" الأفغانية إلى كامب ديفيد، والتي تراجع عنها الرئيس الأميركي في آخر لحظة.
بولتون لم يخف اعتراضه على هذه الخطوة. وكان ذلك بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، حيث صعد التصادم من تحت السطح إلى العلن، وانتهى بالتخلص من بولتون.
نهاية لاقت الترحيب عموماً في واشنطن. فالرجل المغادر "خطير"، يدين بأيديولوجيا التفوق والتعامل مع الخصم أو المختلف معه، بلغة العصا. هو أحد أبرز صقور المحافظين الجدد، والذي لا مكان عنده للدبلوماسية وسياسة التسوية في معالجة الخلافات والأزمات. فقط إخضاع الآخر بالقوة. لذلك رفض الكونغرس تعيينه سفيراً أيام الرئيس جورج بوش الابن.
من هذا الموقع، أشاد بولتون مبكراً بالرئيس ترامب وخطابه المتشدّد مع الخارج. إشادة لفتت نظر ترامب الذي اختاره مستشاراً لشؤون الأمن القومي خلفاً للجنرال هربرت ماكماستر. لكنه اختيار كان محكوماً من البداية بالنتيجة التي انتهى إليها اليوم، مع أنّ هناك قواسم مشتركة هامة تجمع بينهما.
فكلاهما يرفض التحالفات والاتفاقيات الدولية ويدين بالتفرد الأميركي. وكلاهما متمرد على الصيغة المعتمدة في صياغة القرار، والتي تقوم على التنسيق والتشاور بين المؤسسات المعنية. نهج متوارث منذ الحرب العالمية الثانية. بولتون كما ترامب رفض طبخ القرار بهذه الطريقة وآثر الوحدانية في اتخاذه.
مع ذلك، لم يشفع هذا التلاقي بالعلاقة بينهما، لأنّ كليهما يعزف على وتر مختلف. ترامب يتوسل التهويل لعقد صفقات مع الخصم. لكن بولتون يدفع باتجاه ترجمة التهويل وبما يحسم الخصومات.
هو اعتقد أنّ بإمكانه جرّ ترامب إلى هذا الموقع، في تعامله مع إيران وكوريا الشمالية وفنزويلا و"طالبان". والرئيس استعان ببولتون كواجهة لتخويف هؤلاء الخصوم وللتغطية على تراجعاته. التطابق بينهما كان في حدود المستحيل فكان لا فرار من الاصطدام والافتراق.
نهاية تكررت قبل بولتون مع 36 من كبار المسؤولين والوزراء، عدا عن عشرات الآخرين من الصف الثاني والثالث الذين غادروا إدارة ترامب بالاستقالة أو الإقالة.
أحد أبرز الأسباب أنّ ترامب لم يكن راضياً عن ولائهم له. شرط الولاء الذي يعلّق عليه الرئيس أهمية بالغة، كان وراء القسم الأكبر من موجة الهجرة والتهجير المستمرة من إدارته، والتي تسببت بشواغر كثيرة وهامة في إدارته وما زالت تدار بالوكالة، مثل وزارة الأمن الداخلي، ومديرية الاستخبارات الوطنية، ومنصب مدير عام البيت الأبيض "كبير موظفيه"، وغيرهم.
فقط أربعة وزراء احتفظوا حتى الآن بمناصبهم. وحده وزير الخارجية مايك بومبيو، برز كأحد أهم المقربين من الرئيس والأكثر ولاء له. لذا لا يستبعد أن يلعب دور الوزير والمستشار البديل عن بولتون، وإلى حين ملء المنصب... هذا إذا تيسّر ملؤه.
مغادرة بولتون حلقة في مسلسل بدأ مع مجيء الإدارة ومتواصل مع استمرارها. والسؤال الآن في واشنطن: من هو المرشح الجديد للإقالة؟ ربما يكون وزير التجارة ويلبر روس، في ضوء اللغط حول تصرف إداري "خاطئ".