إفلاس نظام في مصر

26 فبراير 2016
+ الخط -
ليس الحديث، هنا، عن ذلك الإفلاس الاقتصادي الذي يطاول الدولة في مصر، إنه عن حالة من الإفلاس السياسي والمجتمعي، يشكل المنقلب فيها، بنظامه، حجر الزاوية في "إفلاس نظام"، ومن ثم إن هذا المشهد المركب الذي يتعلق بعملية الإفلاس إنما يتكون من مشاهد ثلاثة دالة في هذا المقام:
الأول: يتعلق بما حدث في عمومية الأطباء، والتي تعبر عن ثأر الكرامة، بعد أن قام بعض أفراد الجهاز الأمني (أمناء الشرطة) بالاعتداء على أطباء في مستشفى المطرية. كانت عمومية الأطباء تعبيراً، في حقيقة الأمر، عن ثأر للكرامة. ويعكس هذا التجمع الكبير الذي شكل حالة غير مسبوقة للتعبير عن احتجاج الأطباء في شكل جمعية عمومية غير اعتيادية طاقة غضب واسعة من فئةٍ نوعيةٍ، يمثلها الأطباء في مواجهة رمزية البطش الأمني الذي يستهين بكل شيء، حتى ولو كان يداوي المرضى، أو يقدّم خدمة لعموم الشعب. ومن المؤسف حقاً أن يعلن النظام في مواجهة ذلك قدراً كبيراً من الإهمال والإغفال، وقدراً كبيراً من الافتعال، في محاولة للتغطية على فشل النظام في تطويق بطش الجهاز الأمني، بالضرب والسحل والقتل بالرصاص الحي، في سويداء القلب وفي الرأس. يعبر بذلك عن حالة من الاستهانة بالأرواح والنفوس وامتهان كرامة الإنسان في إنسانيته، ضمن مواجهة خطيرة تحاول أن تصوّر هؤلاء الباطشين في إطار التباهي بغطرسة القوة وإغراء السلاح، فيروّعون الناس من دون أدنى تحسب للآثار التي تجعل حالة من العسف بأسس هذا الوطن (مصر)، ولحمته وتماسكه.
ومن العجيب حقاً أن يكون رد فعل الحكومة والمنقلب في إطار من الإهمال والإغفال. يحاول هؤلاء أن يغطوا على كل ما من شأنه أن يعبّر عن الإرادة الحرة أو انتفاض من أجل الكرامة الإنسانية. في مجتمع الانقلاب، تسود لغة الترويع والقمع التي تحاول أن تجعل من شعب مصر وتكويناته المتعددة مجرد قطيعٍ يُساق. وفي الوقت نفسه، يُترك لهؤلاء الذين يمثلون سدنةً لكرسي النظام وحمايته، فيترك لهم الحبل على الغارب، فحينما يكون المنقلب هو كبيرهم الذي سوّغ لهم القمع، بكل ألوانه من ترويع أو قتل من تلك الأجهزة الأمنية، وأكد أنهم فوق الحساب، ولا يمكن أن يطاولهم عقاب، كان ذلك تحصيناً مسبقاً لممارسة كل ألوان البلطجة من تلك الأجهزة الأمنية التي تقوم بكل ما من شأنه أن يوضح، قولاً وفعلاً، أنهم هم الأسياد وغيرهم العبيد، وينظرون إلى عموم الشعب كأنهم عبيد إحساناتهم، أو سقط متاع، أو عقار يورث.
كان ذلك كله يؤكد على مسلك إغفالي، يدل على الإفلاس السياسي الذي يتحرك في مسارات الإهمال أو مسارات التهوين، فيقول رئيس الوزراء إن الرئاسة قد عرضت على هؤلاء، الذين أضيروا بالضرب والسحل من الأطباء، أن يذهبوا إلى عُمرة، في إطار أنه يمكن معالجة الأمور بترضياتٍ، فحواها التعامل بعقلية الاستخفاف والاستهانة والإفلاس، وكأن الأمر يمكن حله على هذا النحو. وفي إطار سياسة الضحك على الذقون، سياسة متبعة ومقرّرة، ومن دون الفطنة إلى أصل الكارثة الحقيقية التي تتعلق بتغول الأجهزة الأمنية على عموم المجتمع والناس، وعلى كل المهن الأخرى، فالأمر بين بلطجية ومواطنين يقعون في دائرة الإهانة والمهانة، لكن الأطباء وجدوا، في اجتماعهم وتماسكهم، تعبيرهم عن استنفارهم من أجل الكرامة التي يجب أن يدافعوا عنها، فقدموا بذلك أهم دلالات على إفلاس نظام.
المشهد الثاني: يتعلق بكارثة الدرب الأحمر. حينما يلوّح أحد أمناء الشرطة بسلاحه، فيقتل
مواطناً مصرياً يقود عربة صغيرة للنقل. وفي مشهد اختلافٍ، هنا أو هناك، لم يكن من أمين الشرطة إلا أن يخرج سلاحه، ويطلق منه ثلاث طلقاتٍ، ترديه قتيلا غارقا في دمائه. وهرب أمين الشرطة، خوفاً من أن يفتك به الناس، لنجد بعد ذلك سلسلة من الدفاع المسبق عن ذلك الأمين الذي أطلق رصاصاتٍ في الهواء، في محاولة تفريق الناس، فأرداه قتيلاً، فكيف من يطلق في الهواء أن يطلق رصاصاته في سويداء القلب، أو في منتصف الرأس. ومع تجمهر الناس، ومحاصرة مديرية الأمن، بدت أجهزة الدولة تشعر بمزيد من الخطر، فأغلقت الطرق إلى ثلاثة من أقسام الشرطة، خوفاً من غضبة الناس المحيطين بحي الدرب الأحمر. وخرج بعضهم يتحدث عن إجرام جهاز أمناء الشرطة، وتناسوا أن البلطجي الأكبر لم يكن إلا هذا المنقلب الذي أكد، بملء فمه، أنه لا حساب ولا عقاب. وبدا الإفلاس يطل ثانيةً، وكأنه سيعالج ذلك المشهد الخطير الذي يتعلق بانفلات الأجهزة الأمنية واستخدام السلاح من أقرب طريق استخفافاً، وبين أناسٍ صارو الضحية لهذه النفوس المتغطرسة التي استباحت كل شيء. وعلى المسار نفسه، لم يكن الحل الذي تفتق عنه ذهن النظام إلا استضافة وزير الداخلية أهل القتيل وتقبيل رؤوسهم، وكأن هذا السلوك المفلس يمكن أن يحل المشكلة، أو يقتلعها من جذورها، فما بين التلويح بالعمرة وتقبيل الرؤوس تنتهك الحقوق وتستباح الدماء وتقتل النفوس.
المشهد الثالث الذي تتم به الصورة يتعلق بقضيةٍ عسكريةٍ، حكم على بعض هؤلاء بالمؤبد، وكان من بينهم طفل صغير، لم يتم بعد سنواته الأربع، ولكن القاضي العسكري حكم عليه بالمؤبد، وأسند إليه من الاتهامات ما لا يمكن أن يقوم به الرجل الفتي أو القوي، وكان وقت وقوع الجرائم الملفقة المشار إليها يبلغ العام ونصف العام. ولم يكن ذلك إلا حالة أخرى من الاستهانة بالنفوس، حينما يقوم القضاء العسكري بمثل هذه المهزلة الكبرى التي تشكل سبّة في جبين أي قضاء، وتعبّر عن هزلية الأحكام وعبثيتها، وتؤشر على التلفيق من دون تبين أو تحقيق. كان ذلك من المشاهد الهزلية في مقام الجد، استهانة بالنفوس الإنسانية حتى الطفل الصغير. وحينما أحس هؤلاء بفداحة جرمهم، أصدر المنقلب عفواً عنه، وتم الإعلان عن استقبال مؤسسة الرئاسة أهله، ليثبت معنى التهمة على قضائه العسكري. ولم يكن ذلك إلا تعبيراً عن إفلاس حقيقي لهذا النظام الذي لا يقيم أي وزن بهذه المساخر التي يمارسها قضاؤه العسكري، خروجا على قواعد التبيّن والتحقق والعدل، إلا أن هؤلاء لا يمضون أحكامهم، إلا باعتبارها نوعاً من البلطجة، لا يستندون في ذلك إلى أي منطق معقول أو حكم مقبول.
هكذا مثلت تلك المشاهد الثلاثة حالة إفلاس سياسي ومجتمعي لمعالجة مشكلات حقيقية لمنظومة قمعية بوليسية، تحميها فاشية عسكرية، وقضاء ظالم فاضح، لا يعرف أي معنى للإنصاف، ويمارس كل أشكال الإجحاف. بدا هذا النظام يتحرّك لحل هذه المشكلات، بعرض "عُمرة" على المسحولين من الأطباء، أو بتقبيل رأس أهل القتيل الذي أهدرت دماؤه، أو يصدر عفواً عن طفلٍ، مثّل الحكم عليه فضيحة فادحة لا تغتفر. كتبت هذا المقال، وكنت أعتقد أن تلك فقط مشاهد الإفلاس. ولكن، جاء خطاب المنقلب أول من أمس، الأربعاء، ليؤكد إفلاساً على إفلاس، وينبئ عن حالة من جنون العظمة، صدّرها لأجهزته الأمنية، فمارست كل أشكال البلطجة والقمع والقتل. نعم، لم يعد الإفلاس فقط اقتصادياً، ولكن هذا الإفلاس الاجتماعي والسياسي أنكى وأشد، لأنه يمارس ذلك في نطاق الاستخفاف والإهانة والاستهانة بالبشر.

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".