أُم أنطون

15 أكتوبر 2014

أسرة مسلمة في كنيسة في غزة أثناء العدوان (يوليو/2014/الأناضول)

+ الخط -

حينما قررت أم أنطون الرحيل من حارتنا، برفقة أسرتها، حدث أمر لم يتوقعه أحد من جيرانها المسلمين؛ فلقد دقّت المرأة المسيحية، منازلهم بيتا بيتا، مودّعة إياهم، وهي تجهش بالبكاء.
لم تكن أم أنطون، طوال السنوات المديدة التي قضتها في حارتنا، ودودة مع جيرانها؛ وهو أمر جعل الجميع يُفاجأ بتصرفها، فقد اكتشفوا خلف شخصيتها "الحديدية" شخصية أخرى، تفيض طيبة وأصالة، ومشاعر نبيلة.
أم أنطون لم تكن تحب الاختلاط بأحد من الجيران المسلمين، ولم تقم علاقة مع أي من نساء المنطقة، على الرغم من طول السنوات التي قضتها في "الحارة"، ما جعل سكاناً عديدين يعتقدون أنها "متكبرة"، ومتزمتة دينياً، وتكره المسلمين.
شخصية زوجها، أبو أنطون، كانت على النقيض، فقد كان لطيفاً للغاية مع جيرانه، ومنسجماً معهم لدرجة الانصهار. وأذكر أنه كان جالسا بجوار جدي، رحمه الله، في بيت عزاء زوجة عمي التي توفيت في حادث سير، في ريعان شبابها. وفجأة، لم يتمالك جدي نفسه، فأجهش باكيا بصوت عالٍ، وهنا فاجأني أبو أنطون، يحاول تهدئة جدي، قائلا:" صلّي على النبي يا حاج، وحّد الله، وحّد الله".
داهمتني هذه الذكريات، وأنا أزور حارتي القديمة، متفحصاً منازلها، ووجوه سكانها، فقبل 20 عاماً تقريبا، كانت تقطن في الحارة، قرابة عشر عائلات مسيحية على الأقل، لم يبقَ منها سوى واحدة، مكونة من أربعة أشخاص فقط.
هذا المنزل الخرساني الكبير أُنشئ فوق منزل أم حنا، (صديقة جدتي، رحمها الله) التي يقال إنها هاجرت مع أسرتها إلى أستراليا. وهنا كان منزل السيدة ليلي التي هاجرت مع زوجها وابنها إيهاب إلى أميركا. وهنا كانت أم يوسف، السيدة العجوز التي كانت تقيم وحيدة في منزلها الأرضي، وتأنس بحديثنا معها، قبل أن يتوفاها الله، ويبيع أقاربها المنزل. منزل السيد موريس، وابنه فادي، أصبح عمارة سكنية، بعد أن رحل إلى القدس (هكذا يقال). أما زوزو، فقد اختفى من الحارة، بعد أن توفيت شقيقته الوحيدة، السيدة ليلي، وانقطعت أخباره. ولم يبقَ حاليا في الحارة سوى العجوز أبو فيليب، برفقة زوجته وابنيه.
حارتنا الصغيرة نموذج مصغّر لأوضاع المسيحيين في قطاع غزة، بل وفلسطين عموماً، فقد أضحت أعداد المسيحيين في غزة، اليوم، لا تتجاوز 2500 شخص، من أصل حوالي مليوني نسمة، هم سكان القطاع. ولو ذهبنا إلى الضفة الغربية والقدس، وأراضي 48، فسنجد الأمر نفسه، فحسب أمين عام الهيئة الإسلامية المسيحية، حنّا عيسى، فإن عدد السكان المسيحيين في مدينة القدس، كان يتجاوز 30 ألفا، عام 1944، ثم تراجع عددهم تدريجيا ليصبح اليوم أقل من خمسة آلاف. وقال إن المسحيين لا يشكلون أكثر من 1% من تعداد سكان الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية والأحياء الشرقية من مدينة القدس وقطاع غزة اليوم، على الرغم من أنهم 20% من تعداد الفلسطينيين في العالم، الذين يقدر عددهم بنحو 11.6 مليون نسمة.
حاولت أن أفهم أسباب اختفاء المسيحيين من فلسطين، على الرغم من انسجامهم الكبير مع جيرانهم المسلمين، وربما توصلت إلى عدة أسباب، أهمها الهجرة، فالفقر، والبطالة، وغياب فرص التعليم، والاحتلال، وممارساته القمعية، كلها تدفع السكان من مسلمين ومسيحيين للهجرة، (عديدون من أفراد عائلتي المسلمة هاجروا أيضا)، لكن مظاهر الهجرة تؤثر على المسيحيين أكثر، لقلة أعدادهم الأصلية. كما أن الطبيعة الاجتماعية للمسيحيين تختلف عنها لدى المسلمين، فهم يميلون إلى قلة الإنجاب، على عكسنا.
حقا إنه أمر محزن، فالفلسطينيون المسيحيون كانوا، وسيبقون، جزءاً أصيلا من النسيج الاجتماعي الفلسطيني، وكانوا وسيبقون على علاقة وثيقة مع جيرانهم المسلمين، وشاركوا ويشاركون في النضال الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي، وفقدانهم، بكل المقاييس، خسارة كبيرة.
 

 

EE1D3290-7345-4F9B-AA93-6D99CB8315DD
ياسر البنا

كاتب وصحافي فلسطيني مقيم في قطاع غزة