أن نكون ضد الإرهاب: وصفة جاهزة للرواج

27 يوليو 2014

تونسيون يتظاهرون في شوارع العاصمة ضد الإرهاب (18يوليو/2014/الأناضول)

+ الخط -


لم يدفن التونسيون شهداءهم، حتى بدأت سلسلة إجراءات اتخذتها حكومة مهدي جمعة، والتي لا تزال متواصلةً لبلورة خطة لمكافحة الإرهاب، تصاغ على عجلٍ، وسط أجواء من التجاذبات السياسية الحادة، لا تخلو من تصفية حساباتٍ وتوظيفات مشينةٍ، أحياناً، بين مختلف الفرقاء السياسيين. ولم تنج بعض أجهزة الدولة من ذلك. ولعل اللافت للانتباه في هذا السجال مواقف النقابات الأمنية، وهي استثناء في الوطن العربي، وقد بدأ التونسيون يضيقون بها ذرعاً، لانزياحها عن مهامها المألوفة، وتدخلها السافر في السياسات الأمنية التي ظلت من مشمولات الدولة والحكومة، بشكل خاص، حتى في أشد الديموقراطيات عراقة. ويعلم عديدون أنه، وباستثناء قلة نادرة، فان جل هذه النقابات تشكل أذرعاً لمنظومة الفساد القديمة، وجحورا يتحصن وراءها بعضهم، حتى تقيه المساءلة والمحاسبة.

تعمد الحكومة إلى اتخاذ هذه الإجراءات، وهي في مرمى سهام حادة تطالها، إما لتقصير في معالجة المشكل، أو لتباطؤ في التحرك في ظل شكوك متنامية عن اختلالات كبيرة، ذات طابع عملياتي، تسللت من فجواته المجموعات الإرهابية، على غرار عدم الجاهزية والتراخي لمختلف الأجهزة وغياب التنسيق بينها إلخ...

هدأت، ولو مؤقتاً، معركة جبل الشعانبي، لكن، واصل التونسيون معاركهم التي يبدو أنها لن تنتهي، فما أن تخمد معركة الجبل حتى تثار معارك أخرى، لا تقل ضراوةً، تستعمل فيها أشرس الأسلحة وأفتكها، بما فيها التهم الجزاف، والابتزاز، وقد انصبت معظمها على حركة النهضة والترويكا التي لم تسلم، حتى وهي خارج الحكم. أصبحت "النهضة" بمثابة الأسطورة التي تفسر أي شيء، من ظهور مفاجئ لبحيراتٍ في قفصة المحاذية لمنطقة الحوض المنجمي (تجارب سرية تجريها الحركة على غاز الشيست)، إلى سقوط الشهداء الأبرار في معارك، يود التونسيون معرفة من يملك الزر الذي يأذن باندلاعها. لم يحرم الخبراء، من الجامعيين والحقوقيين أنفسهم، من متعة الخوض في ذلك، وتقديم حلولٍ، لعل أطرفها ما قدمته إحدى الوجوه النسائية المتباهية دوماً بحداثتها الفائضة، حين دعت إلى حرق الجبل بمن فيه، في افتتاحية صحيفة يومية وبالبنط العريض، أو ما دونته خبيرة عاملة في معهدٍ إقليمي، يعنى بحقوق الإنسان، لم نسمع له مجرد همسٍ، إبان أشد انتهاكات حقوق الإنسان في ظل حكم بن علي، حين أكدت أن المطالبة باحترام حقوق الإنسان في أثناء الحرب على الإرهاب "علكة ولمجة ممجوجة يقتات منها مناضلو حقوق الإنسان". لم تعد هذه المواقف استثنائية، بل غدت في جزء كبير منها قناعاتٍ، تحاول توجيه الخطة الوطنية المزمع بلورتها، خصوصا في أثناء انعقاد المؤتمر الوطني لمكافحة الإرهاب، في الأسابيع القليلة المقبلة.

قد يبدو سابقاً لأوانه تقييم مدى فاعلية هذه الإجراءات في مكافحة الإرهاب، وقد جربت تونس، من قبل وعلى امتداد ما يقارب العشرية، وصفات من هذا القبيل، خصوصاً على إثر أحداث سليمان سنة 2006، والتي شهدت أول مواجهةٍ عسكريةٍ مفتوحةٍ مع مجموعات إرهابية، اتخذت، آنذاك، من سلسلة جبال محاذية للعاصمة مجال نشاطها، والتي ما زالت بعض حلقاتها محل تساؤل، ولم تبح بأسرارها كافة، في ظل ما سادها من تكتم شديدٍ، في ضوء ما يحدده قانون الإرهاب الذي تم سنة 2003، في ظل ما شابه من عيوبٍ كثيرةٍ على ضوء المعايير الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان.

ارتفاع نسق العمليات الإرهابية وتداعياته الخطيرة على أرواح الناس وأمنهم ومعاشهم، علاوة على إمكانية شل عملية الانتقال الديموقراطي برمته، أعادت المجتمع التونسي بحاكميه الجدد بعد الثورة ونخبه، إلى المربع الأول الذي تسطره خطوط حمراء كثيرة تمليها الحكومة.

أول هذه الإجراءات تلك التي تعلقت بغلق المساجد التي لم تستطع الدولة، وزارة الشؤون الدينية تحديداً، بسط نفوذها عليها، وظلت خارج السيطرة، من حيث إمامة المصلين ونوعية الخطاب الذي يلقى فيها تكفير، أو تحريض، أو دعوة إلى القتل، خصوصاً في ظل ما راج عن احتفال مصلين داخلها، لحظة سماعهم خبر العملية الشنيعة الأخيرة.

كما طالت الإجراءات، أيضاً، الجمعيات في مصادر تمويلها ومجال تدخلها، في ظل شكوك متنامية عن طبيعة القوى التي تقف حول تمويلها، لتكون غطاءً لممارسة شتى أنواع استمالة الناس للمشروع الإرهابي، مستغلين الهشاشة الاقتصادية المتنامية في الأحياء وأحزمة الفقر والمجال القروي المنسي الذي لم تلتفت له دولة الاستقلال، كما لم تنج بعض القنوات الإذاعية والتلفزية المنفلتة من الغلق.

أثارت سلسلة هذه الإجراءات ردود أفعال متباينة لدى الطبقة السياسية، تراوحت بين الترحيب والحذر، لعل أهمها أنها قد تكون ذريعة للانقلاب على ما توهم التونسيون أنهم كسبوه وإلى الأبد، الحرية وعلوية دستورهم الغض والفتي، وهو يتعرض، حالياً، إلى اختبار قاس.

معركة التونسيين مع الإرهاب ينظر إليها عديدون على أنها معركة نموذجية، وغير مسبوقة بالمرة، أنها معركة مجتمع يكافح الإرهاب، وينجز تحوله الديموقراطي في آن واحد. وتعلمنا التجارب التي تم اتباعها، في السنوات الأخيرة، أن أمماً عدة استطاعت أن تنتصر على الإرهاب، ولكن فقدت، وربما إلى الأبد، حرياتها، فبقدر ما يكسب أمراء حرب الإرهاب في معاركهم، بقدر ما يجني تجار الاستبداد السياسي من انتعاش أطروحاتهم ورواجها.

علينا أن نتفطن إلى مؤشرات خطرة، بدأت تتواتر في الأسابيع الأخيرة، مثل تصفيق بعضهم لمحاولات سحل جثث الإرهابيين، والانتقام من أهاليهم والتحرش بهم، ناهيك عن طقوس دفنهم... إلخ. هناك كرامة بشرية تنسحب على الأحياء والأموات، بقطع النظر عما يقترف هؤلاء، وهناك قضاء مستقل وعادل، يبت فيما ارتكبوا، ويجنب الناس العقاب الجماعي. ولكن، يبدو أنه هناك صناعة ذكية للمناخ، تجعل من تلك الإجراءات، لا مجرد استجابة إلى مطلب شعبي، بل إشباعا لحاجة. وفي ظل هذا الطلب الاجتماعي المتعاظم على الأمن، تتوسع دائرة السلطات التقديرية للسلطة التنفيذية، وأساساً، سلطات وزارة الداخلية. في مناخ الرعب، نشأت أشد الأنظمة استبداداً، وبتأييد شعبي لا مثيل له. يطل علينا، هذه الأيام، المستبد العادل، وقد تلين له أفئدة الناس، إذا توهموا أن الحرية سوق للفوضى ووليمة للعنف.

الإصبع على الزناد، هكذا خاطب أحد وجوه النقابات الأمنية المشاهدين في أكثر من قناة تلفزية، في سابقة خطيرة، ذكرتنا بقادةٍ عسكريين حكموا أكثر من بلد عربي. وتشكلت له في الحين روابط للدفاع عنه. إنهم يحبونه، كما تقترح علينا إحدى العبارات الأكثر تواتراً في "فيسبوك".

معركة تونس مع الإرهاب، وهي معركة عادلة ومنصورة، ولن تحسمها أعداد الرصاصات القاتلة التي تصيب الإرهابيين، ولا حجم ما تحتويه زنزانات السجون وأقبيتها من معتقلين، ولا حجم المعلومات التي تخزنها حواسيب أجهزة المخابرات. هذه إجراءات وأدوات ضرورية، لكنها غير كافية، فالمعركة يحسمها تعليم جيد وثقافة مدنية راقية، وتنمية عادلة ودستور يحمي حقوق الإنسان ويضمن الحريات.

تجفيف المنابع تجربة بادر التونسيون إلى اختبارها، منذ أكثر من عقدين، ولكن، وبقطع النظر عن الانحرافات الخطيرة التي شابتها، فإن نتائجها كادت تكون عكسية. وسينتصر التونسيون على الإرهاب لا محالة، ولكن، سيظل انتصارهم تاريخياً واستثنائيا وفريداً، لو حافظوا في ذلك كله على حرياتهم، وعلى حقوق إنسانٍ، كانت حلم أجيال عديدة من "نخبهم الحقوقية"، غير أن الغريب أن ما تقدمه الحكومة، حالياً، وما به ترد النخب عن استحياء، يحدث وكأن البلاد لم تسن دستورها بعد، ولم تجرّب ما يشبه تلك الوصفة.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.