ثمة صورة تكاد تكون راسخة في مخيلة مَن يتابع الأنشطة الثقافية: مشهد الكاتب الذي يجلس خلف طاولة وعلى يمينه ناقد يمنحه صك العبقرية الخالدة. أما الجمهور، في هذه الصورة، فيقتصر دوره على الاستماع، والتصفيق بين الفواصل الكلامية. صورة أخرى تطفو إلى السطح، وتكاد تغالب الصورة الأولى:
يحضر الكاتب ويجلس في حلقة مستديرة، تحيط به مجموعة من القرّاء. في الصورة الأولى، يأتي الكاتب ليتحدث، بينما في الصورة الأخرى يأتي ليستمع إلى آراء القرّاء، ويغيب الناقد أو يحضر فيأخذ فرصته في الكلام كأي قارئ آخر.
ذات مساء صيفي، قررت، أنا وصديقي، حضورَ جلسة مناقشة رواية محمد شكري "الخبز الحافي" التي عقدها نادي "انكتاب" في مقهى "بيت بلدنا". وصلنا متأخرين؛ جذبنا كرسيين وبصعوبة استطعنا أن نجد لنا مكاناً في زحام المتناقشين. كان المكان ضيقاً، والحضور من كلا الجنسين. تم تقسيم المناقشة إلى عدة محاور، كل شخص تتاح له دقيقتان ليعبر عن رأيه في كل محور. وقد دار النقاش بسلاسة ومرح ينمان عن روح التقبل للآخر رغم اختلاف وجهات النظر.
كانت المرة الثالثة التي أشارك في مناقشات من هذا النوع. وقد جذبتني الطريقة الديمقراطية التي تتبعها هذه الأندية في اختيار الكتب. إذ يتم طرح الكتب المقترحة للتصويت على صفحة الفايسبوك الخاصة بالنادي، والكتاب الذي يحصل على أعلى نسبة تصويت يتأهل ليوضع على طاولة النقاش. وإذا استطاع أحد القائمين على النادي فرض كتاب للنقاش، فإنه حتما لن يستطيع فرض رأيه في الكتاب على القرّاء.
لقد تكاثرت أندية القراءة في الفترة الأخيرة إلى درجة لافتة للنظر، كما تفرعت عن بعض هذه الأندية أندية أخرى في المحافظات. ويمكن بسهولة إحصاء ثلاثين نادياً في الأردن يشرف عليها قرّاء من فئة الشباب وطلبة الجامعات. أشهرها: نادي انكتاب، نادي نقش، مشروع مثقف، نادي 13 تحت الشمس، نادي كتاب 96، نادي كتاب ، نادي "ماذا أقرأ؟".
ورغم أنّ بعض المثقفين يقارن أندية القراءة بالصالونات التي كان يناقش فيها الكتب والنصوص، فإنّ الفرق واضح بينهما؛ فتلك الصالونات كانت خاصة بالكتّاب والمثقفين، ومقتصرة على النخبة التي تطمح إلى دخول عالم الكتابة. أما أندية القراءة، فالقائمون عليها يحملون لقب "قارئ فقط"، وهم شباب يجمعهم هوس القراءة والكتب، وهدفهم الأساس خلق سوق استهلاكي للكتاب في المجتمعات الناطقة بالعربية. ولأول مرة أصبح للكتاب ـ عند العرب ـ مستهلك غير المثقف النخبوي/ الكاتب.
كما أنّ نشاطات هذه الأندية أصبحت تتعدى عقد جلسات المناقشة إلى إقامة مشاريع وأنشطة توعوية ثقافية تفوق أحياناً الفعاليات الرسمية التي تشرف عليها وزارة الثقافة. فمعرض الكتاب المستعمل "نون" ـ يقيمه نادي "انكتاب" ـ الذي يوفر الكتب المستعملة بأسعار متدنية لا تتجاوز الدينارين؛ باع في دورته الأخيرة ما يقارب سبعة وعشرين ألف كتاب من أصل ثلاثين ألفا، خلال يومي المعرض. كما أقيم على هامش المعرض أكثر من حفل توقيع لكتّاب من الأردن وخارجه، حققت نجاحا ملموسا على مستوى المبيعات. في حين يتبع أعضاء "نادي 13 تحت الشمس" لجمعية "كتابي كتابك" التي تضطلع بجمع الكتب الفائضة عن حاجة أصحابها لإنشاء مكتبات عامة داخل المخيمات الفلسطينية في الأردن.
وترى زين مبارك التي تنتمي إلى "نادي 13 تحت الشمس" أنّ أندية القراءة هي ترجمة فعلية لثقاقة القراءة التفاعلية من خلال تبادل الآراء ووجهات النظر المختلفة. وتضيف: "جلسات النقاش تثري المخزون الثقافي لدى الفرد، وتساعده على تعلم آداب الحوار وتقبل وجهات النظر وقراءة النص من أكثر من منظور لتكوين صورة كاملة عن العمل". كما أن المراجعات الجماعية التي يكتبها أعضاء النادي ترفد المحتوى العربي من خلال نشر هذه المراجعات على المدونات ومواقع التواصل المختلفة لتنتشر بين القراء، فتعم الفكرة.
ويقول صدام الرطروط الذي ينتمي إلى نادي"ماذا أقرأ؟" إنّ أندية القراءة هي اللبنة الفعلية لنشر القراءة في المجتمع. ويرى أن هدف نادي القراءة هو بناء القارئ الشمولي من خلال التنويع في عناوين الكتب وموضوعاتها، وعدم حصرها في توجه فكري واحد. لذلك قد طرح نادي "ماذا اقرأ؟" ـ وهو نادٍ خاص بطلبة الجامعة ـ كتباً في الفكر والأدب ومهارات الحياة. وقريبا سيناقش رواية "الحمامة" لباتريك زوسكيند، إضافة إلى عقد مسابقة أدبية يحصل الفائز فيها على جائزة نقدية تم جمع قيمتها من أعضاء النادي. ويرى الرطروط أن فعاليات أندية القراءة أكثر مصداقية من أنشطة المؤسسات الثقافية الرسمية التي يعنى القائمون عليها بقبض رواتبهم أكثر مما يعنون بنشر القراءة.
وأخيراً، نقول إن أندية القراءة في الأردن ظاهرة تستحق الدراسة لما قد تحدثه من خلخلة في بنية الثقافة النخبوية؛ فقد فتحت المجال أمام كتّاب ليس لهم ارتباطات علاقاتية مع وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة، وجعلت كتبهم تحقق مبيعات جيدة. كما أنها تؤسس لمجتمع يستهلك الكتاب كمنتج له قيمة. وربما يكون لهذه الأندية، في المستقبل القريب، دور أكبر مما تقوم به اليوم.
يحضر الكاتب ويجلس في حلقة مستديرة، تحيط به مجموعة من القرّاء. في الصورة الأولى، يأتي الكاتب ليتحدث، بينما في الصورة الأخرى يأتي ليستمع إلى آراء القرّاء، ويغيب الناقد أو يحضر فيأخذ فرصته في الكلام كأي قارئ آخر.
ذات مساء صيفي، قررت، أنا وصديقي، حضورَ جلسة مناقشة رواية محمد شكري "الخبز الحافي" التي عقدها نادي "انكتاب" في مقهى "بيت بلدنا". وصلنا متأخرين؛ جذبنا كرسيين وبصعوبة استطعنا أن نجد لنا مكاناً في زحام المتناقشين. كان المكان ضيقاً، والحضور من كلا الجنسين. تم تقسيم المناقشة إلى عدة محاور، كل شخص تتاح له دقيقتان ليعبر عن رأيه في كل محور. وقد دار النقاش بسلاسة ومرح ينمان عن روح التقبل للآخر رغم اختلاف وجهات النظر.
كانت المرة الثالثة التي أشارك في مناقشات من هذا النوع. وقد جذبتني الطريقة الديمقراطية التي تتبعها هذه الأندية في اختيار الكتب. إذ يتم طرح الكتب المقترحة للتصويت على صفحة الفايسبوك الخاصة بالنادي، والكتاب الذي يحصل على أعلى نسبة تصويت يتأهل ليوضع على طاولة النقاش. وإذا استطاع أحد القائمين على النادي فرض كتاب للنقاش، فإنه حتما لن يستطيع فرض رأيه في الكتاب على القرّاء.
لقد تكاثرت أندية القراءة في الفترة الأخيرة إلى درجة لافتة للنظر، كما تفرعت عن بعض هذه الأندية أندية أخرى في المحافظات. ويمكن بسهولة إحصاء ثلاثين نادياً في الأردن يشرف عليها قرّاء من فئة الشباب وطلبة الجامعات. أشهرها: نادي انكتاب، نادي نقش، مشروع مثقف، نادي 13 تحت الشمس، نادي كتاب 96، نادي كتاب ، نادي "ماذا أقرأ؟".
ورغم أنّ بعض المثقفين يقارن أندية القراءة بالصالونات التي كان يناقش فيها الكتب والنصوص، فإنّ الفرق واضح بينهما؛ فتلك الصالونات كانت خاصة بالكتّاب والمثقفين، ومقتصرة على النخبة التي تطمح إلى دخول عالم الكتابة. أما أندية القراءة، فالقائمون عليها يحملون لقب "قارئ فقط"، وهم شباب يجمعهم هوس القراءة والكتب، وهدفهم الأساس خلق سوق استهلاكي للكتاب في المجتمعات الناطقة بالعربية. ولأول مرة أصبح للكتاب ـ عند العرب ـ مستهلك غير المثقف النخبوي/ الكاتب.
كما أنّ نشاطات هذه الأندية أصبحت تتعدى عقد جلسات المناقشة إلى إقامة مشاريع وأنشطة توعوية ثقافية تفوق أحياناً الفعاليات الرسمية التي تشرف عليها وزارة الثقافة. فمعرض الكتاب المستعمل "نون" ـ يقيمه نادي "انكتاب" ـ الذي يوفر الكتب المستعملة بأسعار متدنية لا تتجاوز الدينارين؛ باع في دورته الأخيرة ما يقارب سبعة وعشرين ألف كتاب من أصل ثلاثين ألفا، خلال يومي المعرض. كما أقيم على هامش المعرض أكثر من حفل توقيع لكتّاب من الأردن وخارجه، حققت نجاحا ملموسا على مستوى المبيعات. في حين يتبع أعضاء "نادي 13 تحت الشمس" لجمعية "كتابي كتابك" التي تضطلع بجمع الكتب الفائضة عن حاجة أصحابها لإنشاء مكتبات عامة داخل المخيمات الفلسطينية في الأردن.
وترى زين مبارك التي تنتمي إلى "نادي 13 تحت الشمس" أنّ أندية القراءة هي ترجمة فعلية لثقاقة القراءة التفاعلية من خلال تبادل الآراء ووجهات النظر المختلفة. وتضيف: "جلسات النقاش تثري المخزون الثقافي لدى الفرد، وتساعده على تعلم آداب الحوار وتقبل وجهات النظر وقراءة النص من أكثر من منظور لتكوين صورة كاملة عن العمل". كما أن المراجعات الجماعية التي يكتبها أعضاء النادي ترفد المحتوى العربي من خلال نشر هذه المراجعات على المدونات ومواقع التواصل المختلفة لتنتشر بين القراء، فتعم الفكرة.
ويقول صدام الرطروط الذي ينتمي إلى نادي"ماذا أقرأ؟" إنّ أندية القراءة هي اللبنة الفعلية لنشر القراءة في المجتمع. ويرى أن هدف نادي القراءة هو بناء القارئ الشمولي من خلال التنويع في عناوين الكتب وموضوعاتها، وعدم حصرها في توجه فكري واحد. لذلك قد طرح نادي "ماذا اقرأ؟" ـ وهو نادٍ خاص بطلبة الجامعة ـ كتباً في الفكر والأدب ومهارات الحياة. وقريبا سيناقش رواية "الحمامة" لباتريك زوسكيند، إضافة إلى عقد مسابقة أدبية يحصل الفائز فيها على جائزة نقدية تم جمع قيمتها من أعضاء النادي. ويرى الرطروط أن فعاليات أندية القراءة أكثر مصداقية من أنشطة المؤسسات الثقافية الرسمية التي يعنى القائمون عليها بقبض رواتبهم أكثر مما يعنون بنشر القراءة.
وأخيراً، نقول إن أندية القراءة في الأردن ظاهرة تستحق الدراسة لما قد تحدثه من خلخلة في بنية الثقافة النخبوية؛ فقد فتحت المجال أمام كتّاب ليس لهم ارتباطات علاقاتية مع وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة، وجعلت كتبهم تحقق مبيعات جيدة. كما أنها تؤسس لمجتمع يستهلك الكتاب كمنتج له قيمة. وربما يكون لهذه الأندية، في المستقبل القريب، دور أكبر مما تقوم به اليوم.