أميركا وإيران وحافة الهاوية.. اتفاق أم حرب؟

27 يوليو 2018
+ الخط -
أصبح معلوما أن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، يفضّل أن يخوض معاركه عبر تغريدات عبر موقع "تويتر"، خصوصا في ساعات المساء المتأخرة، حيث لا يمكن، في العادة، لمستشاريه أن يتحكّموا بنبرة تغريداته، ولا أن يخففوا من حدّة وطأتها. أيضا، يميل ترامب، في صراعاته السياسية، الداخلية منها والخارجية، إلى لغةٍ واضحةٍ ومباشرة، لا تخلو من القدح والتشهير، داخليا، ولا من الوعيد والتهديد، خارجيا. هذا سلوكٌ غير مسبوق من رئيس أميركي، وبالتالي فإنه أحدث حالةً من الضبابية والغموض في مواقف الإدارة الأميركية. عندما يغرّد الرئيس أو يصرّح في اتجاه، ويذهب مسؤولون في إدارته في اتجاه آخر، يكون السؤال من يمثل الموقف الرسمي للولايات المتحدة؟ هذه مسألة معقدة، ولا يمكن الإجابة عليها بسهولة، فالرئيس هو رأس الهرم السياسي تنفيذيا في الولايات المتحدة، ولا يمكن تحييد دوره وتجاوزه، خصوصا في السياسة الخارجية. في الوقت نفسه، الولايات المتحدة دولة مؤسسات، وأي تغيير في مقاربة سياسية يناط بوكالاتٍ متخصصة إنجازه. وبالتالي، فإنها قد تحاول إعاقة ما لا تراه سياسةً صالحة.
المقدمة السابقة مهمة في سياق التصعيد الأميركي - الإيراني أخيرا، حيث يتبادل البلدان الوعيد والتهديد عبر "تويتر"، وعبر تصريحات مسؤولين فيهما، في حين أن الأوضاع على الأرض لا تُنبي، على الأقل إلى الآن، أن ثمّة تصعيدا عسكريا قادما. منذ انسحبت إدارة ترامب من 
الاتفاق النووي مع إيران، في مايو/ أيار الماضي، وأعادت فرض عقوبات اقتصادية قاسية على طهران، ونبرة العداء بين الطرفين في تصاعد مستمر. المسؤولون الإيرانيون، السياسيون والعسكريون، لا يفتأون يحذّرون بأن مساعي واشنطن إلى فرض حظر شامل على تصدير النفط الإيراني في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، ستعني أيضا، وقفا لصادرات النفط الخليجية عبر الخليج العربي ومضيق هرمز. يؤكد الحرس الثوري الإيراني قدرته على إغلاق الخليج العربي، في حين تؤكد البحرية الأميركية أنها قادرةٌ على ضمان الملاحة الدولية عبره وعبر مضائقه. ولكن، على أرض الواقع، لا مؤشرات على تحرّكات عسكرية من القوات الإيرانية، ولا مؤشرات كذلك على تعزيزاتٍ عسكرية أميركية في المنطقة. المشكلة هنا أن نبرة التراشق اللفظي الأميركي - الإيراني حادة جدا، وعندما يكون الرئيس الأميركي نفسه أحد أطراف ذلك التراشق، فإنه لا يمكن أبدا المراهنة، فحسب، على أنه لا يمثل حسابات "المؤسسة" الأميركية الأكثر واقعيةً واتزانا.
شهدت الأيام القليلة الماضية مستوىً غير مسبوق في التهديدات المتبادلة بين البلدين. كانت الشرارة الأولى بتصريحات نقلت عن الرئيس الإيراني، حسن روحاني، في لقاء جمعه بدبلوماسيين إيرانيين في طهران، يوم الأحد الماضي، خاطب فيها ترامب قائلا: "يا سيد ترامب، لا تعبث بذيل الأسد، فهذا لن يؤدي إلا إلى الندم". وأضاف: "ينبغي أن تعلم أميركا أن السلام مع إيران هو السلام الحقيقي، والحرب مع إيران هي أم الحروب". ومع أن روحاني ترك الباب مفتوحا أمام إمكانية تحقيق السلام بين البلدين في تلك التصريحات، إلا أن نبرة التحدّي والوعيد فيها أغضبت ترامب الذي غرّد مساء اليوم نفسه، مخاطبا روحاني بحروفٍ كبيرة: "إياك أن تهدّد الولايات المتحدة مرة أخرى، وإلا فستواجه عواقب لم يختبرها سوى قلة عبر التاريخ". وأضاف: "لم نعد دولةً تقبل كلماتكم الجنونية عن العنف والموت.. احترسوا!". لم يتأخر الرد الإيراني على هذا التهديد، حيث غَرَّدَ وزير الخارجية، محمد جواد ظريف: "لم نتأثر (بحروفٍ كبيرة).. سمع العالم قبل عدة شهور تهديدا ربما كان أقوى. ودأب الإيرانيون على سماع تهديدات، لكن أكثر تحضرا، على مدى 40 عاما. نحن موجودون منذ آلاف السنين، وشهدنا سقوط إمبراطوريات بما فيها إمبراطوريتنا التي امتدت على مدى أطول من عمر بعض الدول". وأضاف ظريف: بحروف كبيرة مثلما كتب ترامب "احترسوا".
تذكّر حرب التصريحات النارية هذه بتراشق آخر، بالحدّة نفسها أو ربما أشد، جرى صيف العام الماضي، وكان بطلاه ترامب وزعيم كوريا الشمالية، كيم جونغ أون. في أغسطس/ آب 2017، هدّدت كوريا الشمالية بإطلاق أربعة صواريخ باليستية نحو جزيرة غوام الأميركية في المحيط الهادئ على أن تسقط على بعد 30 إلى 40 كيلو مترا منها، وذلك ردّا على فرض مجلس الأمن الدولي، قبل شهر من ذلك، عقوباتٍ اقتصادية خانقة على بيونغ يانغ، بتحريض أميركي. لم يتأخر رد ترامب: "من الأفضل لكوريا الشمالية ألا توجه أي تهديدات أخرى للولايات المتحدة. ستُقابل بنار وغضب وقوة لم يرها العالم من قبل قط". ومن تلك النقطة، انطلقت حرب التصريحات والتهديدات المتبادلة، وغير المسبوقة في مستواها وحدّتها، وصلت إلى حد التهديد بحرب نووية، ولم يترفع فيها الطرفان عن الشتائم، فوصف ترامب أون بـ"السمين" و"القصير"، ورد الأخير بوصف ترامب بـ"المختل عقليا"، و"الكلب الخائف الذي ينبح بصوت أعلى".
ثمة من يعتبر أن سابقة التصعيد بين ترامب-أون، العام الماضي، قد تكون مؤشرا على أن الأمور لن تسير نحو تصعيد عسكري أميركي مع إيران. فاجأ ترامب العالم، بل وحتى إدارته نفسها، في شهر آذار/مارس الماضي، بقبوله الحوار مع أون، وانتهى الأمر بعقدهما قمة في سنغافورة الشهر الماضي، يفترض أن تفضي إلى نزع السلاح النووي من شبه الجزيرة الكورية. هذه المرة أيضا، وبعد يومين من تبادل التهديدات عبر "تويتر"، بادر ترامب، يوم الثلاثاء الماضي، إلى الإعلان عن أن الباب لا يزال مفتوحا لإمكانية التفاوض على اتفاقٍ لنزع أسلحة إيران النووية. وقال: "مستعدون للتوصل إلى اتفاقٍ حقيقي، وليس الاتفاق الذي توصلت إليه الإدارة السابقة الذي يمثل كارثة". إيران لا تزال تبدي تمنّعا إلى الآن في موضوعة إعادة التفاوض حول الاتفاق النووي الذي وقع عام 2015 بعد مفاوضاتٍ عسيرةٍ دامت سنوات.
المشكلة أن إيران تئن اقتصاديا تحت وطأة العقوبات الاقتصادية الأميركية، وهي على أبواب 
عقوباتٍ أكثر شراسةً في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. وثمّة تخوّفٌ إيراني رسمي من أن هذه العقوبات تهدف، بالدرجة الأولى، إلى زعزعة الاستقرار في البلد، خصوصا أن علامات الغضب الشعبي من تردّي الأوضاع الاقتصادية لا تكاد تخطئها عين. بناء على ما سبق، يرى مراقبون أن إيران المدركة حدود قوتها، والتعقيدات الجيوستراتيجية التي تعيشها، ستستسلم في المحصلة لمطالب ترامب إعادة التفاوض، من دون أن يعني ذلك رضوخها لما يريده، خصوصا أن ترامب يبدو أكثر حرصا على إعادة التفاوض، لتنفيذ وعدٍ انتخابي، منه على الحصول على اتفاق أفضل من الذي حققته إدارة سلفه، باراك أوباما. ما يعضد ذلك، أن ثمّة إدراكا أميركيا، أيضا، أن حربا مع إيران لن تكون نزهة، ولن تكون حدودها إيران، بل ستشمل ساحاتٍ كثيرة في الشرق الأوسط، وربما وراءه.
قد تكون المقاربة السابقة منطقية جدا، فترامب يصعّد لفظيا لدفع الخصم للقبول بالجلوس إلى طاولة المفاوضات. هذا ما جرى مع كوريا الشمالية، إلا أن ثمّة من يشير إلى أن فروقات في السياق الإيراني تجعل من مقاربته بالسياق الكوري أمرا بالغ الخطورة. يشير أولئك إلى جملة من الفوارق هنا. في حالة كوريا الشمالية، كان ثمّة حلفاء أميركيون لا يريدون حربا، وإنما اتفاقا سلميا، والحديث هنا تحديدا عن كوريا الجنوبية واليابان. أيضا الصين، حليف بيونغ يانغ، لا تريد حربا في شبه الجزيرة الكورية. في المقابل، يدفع الحلفاء الأميركيون في الشرق الأوسط، وتحديدا إسرائيل والسعودية والإمارات، باتجاه حرب أميركية مع إيران. أيضا، في كوريا الشمالية ثمّة شخصٌ واحدٌ يحكم والكل يطيع. عندما كان أون يدفع باتجاه الحرب، كان الجميع في الحكم وراءه. وعندما قبل الجلوس إلى ترامب، وقف الجميع في بلاده وراءه. في إيران الوضع مختلف، حيث ثمّة توازنات قوى، وتنافس بينها. أيضا، لإيران نفوذ وأطماع إقليمية، تصطدم بمصالح أميركا وحلفائها، في حين أن كوريا الشمالية تريد الاعتراف بها، وبسلامة نظامها وأمنها. وأخيرا، الدائرة المحيطة بترامب اليوم فيها صقورٌ لن يمانعوا حربا مع إيران، وفي مقدمتهم مستشار الأمن القومي، جون بولتون، ووزير الخارجية، مايك بومبيو.
لا يعني ما سبق أن تصعيدا أميركيا - إيرانيا أمر حتمي، لكنه لا يعني أيضا أنه مستحيل. قد لا تكون المؤسسة الأميركية، خصوصا وزارة الدفاع، راغبة في حرب، ولكن إن كنا تعلّمنا من تجربة غزو العراق، عام 2003، شيئا، فهو أن قرار الحرب والسلم قابلٌ للاختطاف في الولايات المتحدة من إيديولوجيين مهووسين، وعلى إيران أن "تحترس" فعلا، كما على عقلاء الولايات المتحدة أن "يحترسوا" كذلك. أما الإسرائيليون وقارعو طبول الحرب بيننا، نحن العرب، فلا يلقون بالاً لأي تداعياتٍ كارثيةٍ، ستترتب على حربٍ كهذه، إذا وقعت.