04 يناير 2021
أفول الهيمنة الأميركية
شكل انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك المنظومة الاشتراكية نقطة البداية لمرحلة هيمنت فيها الولايات المتحدة الأميركية على العالم، مدفوعة بزخم الانتصار الذي حققته في الحرب الباردة على خصمها اللدود، وبتفوقها العسكري والاقتصادي، إلى جانب المنظومة الغربية التي تقودها، على سائر أمم الأرض. واستغلت تلك الهيمنة المتفردة في تحقيق مكاسب اقتصادية واستراتيجية جمّة، حين فرضت علاقات تجارية غير عادلة على معظم الدول النامية والاقتصادات الناشئة التي فقدت هامش المناورة بزوال القطب العالمي الثاني. وعممت نموذجها الاقتصادي، عبر صندوق النقد والبنك الدوليين، اللذيْن مارسا ضغوطاً على حكومات تلك الدول، لإحداث تغييرات بنيوية مؤسسية واقتصادية، تُعمّق تبعيتها بما يخدم مصالح الولايات المتحدة والغرب الاقتصادية، على حساب متطلبات التنمية الحقيقية.
وعلى الرغم من أن كتاباتٍ كثيرة تنبأت بأن العالم مقبل على تعددية قطبية في المستقبل، إلا أنه لم يكن في الحسبان أن مرحلة صعود القطبية الأميركية المتفردة لن تستمر أكثر من عقد ونيّف، حيث سرعان ما تبدى للعالم، وللولايات المتحدة نفسها، أن قيادة "مجتمع الدول" مهمة أكبر من طاقة تلك الأخيرة. وحصل ذلك في وقت كان يُعتقد فيه أن القوة الأميركية ستهيمن على العالم عقوداً مقبلة، حيث حققت الولايات المتحدة وُفورات اقتصادية وفوائض مالية هائلة، مع نهاية عهد بيل كلينتون وبداية عهد جورج بوش الإبن، بعد أن فُتحت أمامها أسواق شرق أوروبا "البكر"، وتمكنت، بعد حرب الخليج الأولى، من إحكام قبضتها على منابع الطاقة في الشرق الأوسط، وعززت من انتشار حلف الناتو وقوته، على الرغم من تفكك حلف "وارسو"، وتقادُم القوة العسكرية الروسية وترهلها في حينه.
تفكّكَ الاتحاد السوفييتي، والاقتصاد الأميركي يشكل ما نسبته 26.3% من الاقتصاد العالمي (أنظر أرقام صندوق النقد الدولي حول الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة والعالم بحسب القيمة الحالية بالدولار)، ووصلت تلك النسبة مع نهاية عهد كلينتون عام 2000 إلى 31%، ثم بلغت ذروتها في نهاية عام 2002، ووصلت إلى 32%، أي أن أميركا كانت تنتج أقل بقليل من ثلث ما كان ينتجه العالم برمته. وتزامنت ذروة الصعود الاقتصادي الأميركي هذه مع ذروة الغطرسة الأميركية، حين أطلق جورج بوش الإبن حربيه على أفغانستان والعراق.
كان تراجع الهيمنة الاقتصادية الأميركية منطقياً، لأن الصعود لم يكن نتاج تطور طبيعي، بل جاء في ظل ظروف دولية استثنائية، كانت مواتية للغاية للولايات المتحدة. وبالعودة إلى النقطة نفسها التي انطلق منها عرضنا لصعود الهيمنة الأميركية، وهي انهيار الاتحاد السوفييتي مطلع العقد الأخير من القرن العشرين، نجد أنها كانت، بحد ذاتها، النقطة الأدنى على خط انحدارٍ لتلك الهيمنة، خلال النصف الثاني من عقد الثمانينات، فبعد أن كان الاقتصاد الأميركي قد حقق معدلات نمو غير مسبوقة، ولا ملحوقة، في النصف الأول من ذلك العقد، أي خلال الفترة الأولى من حكم الرئيس رونالد ريغان، وارتفع الناتج المحلي الإجمالي الأميركي من 25% من إجمالي الناتج العالمي عام 1980، إلى 35% في غضون خمس سنوات فقط؛ عاد وتراجع في الأعوام الخمسة التالية إلى أقل من 26% من الاقتصاد العالمي، وذلك عشية تفكك المعسكر الاشتراكي مطلع التسعينات، أي أن انهيار الاتحاد السوفييتي جاء في وقت لم تكن فيه الولايات المتحدة في أحسن حال، بل كانت تترنح بدورها تحت عبء الكُلَف الباهظة لسباق التسلح وصراع النفوذ مع القطب الشيوعي.
وكما هو معروف؛ تزامن تراجع الهيمنة الاقتصادية الأميركية في السنوات الماضية مع صعود دول الاقتصادات الناشئة، أو متوسطة الدخل، وفي مقدمتها الصين، والهند، وروسيا، والبرازيل، وإندونيسيا، والمكسيك. حيث، وبحسب بيانات البنك الدولي لعام 2011؛ تستحوذ اقتصادات تلك الدول الست على 32.3% من إجمالي الناتج المحلي العالمي (وهي نسبة تماثل ما كانت تستحوذ عليه أميركا وحدها من إنتاج العالم نهاية عام 2002)، بينما شكلت أكبر ستة اقتصادات مرتفعة الدخل في العالم، وهي الولايات المتحدة، واليابان، وألمانيا، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وإيطاليا؛ حوالى 32.9% من إجمالي الناتج المحلي العالمي.
وعلى الرغم من أن صعود دول الاقتصادات المتوسطة، وفي مقدمتها الصين، كان متوقعاً، نظراً لمعدلات نموها القياسية؛ إلا أن محللين كثيرين استبعدوا أن تتمكن تلك الدول من إطاحة هيمنة الولايات المتحدة، ومعها الغرب عموماً، على المديين، القريب والمتوسط، نظراً للفجوة التكنولوجية الكبيرة بينها والغرب (ربما باستثناء روسيا)، والتي كان يُعتقد أن ردمها سيكون أبطأ بكثير من ردم تلك الاقتصادية، وهو افتراض لم تدعمه المتغيرات التي حصلت خلال السنوات الأخيرة، حيث تشير تقديرات اليوم إلى أن الصين قادرة على اللحاق بالغرب تكنولوجياً في غضون عشر سنوات فقط، كما استطاعت الهند أن تحقق قفزات هائلة على هذا الصعيد، في السنوات القليلة الماضية. فالوفورات الاقتصادية الكبيرة التي حققتها تلك الدول مكّنتها من نقل كثير من تكنولوجيا الغرب، سواء بشكل شرعي عبر اشتراط "نقل التكنولوجيا" في الصفقات الصناعية والعسكرية الكبرى، أو غير شرعي عبر التجسس الصناعي. هذا علاوة على إنفاقها المتزايد على البحث والتطوير والتعليم الجامعي.
عملت الولايات المتحدة الأميركية، منذ بداية عهد باراك أوباما، على إدارة انحدار قوتها على المستوى الدولي، وأخذت تنسحب، بشكل هادئ ومنظم، من مناطق تَدَخُّلها المباشر، وعمدت إلى تسوية خلافاتها مع دول عدة كان يبدو، حتى الأمس القريب، أن بعضها عصيّ على الحل، إلا بإسقاط أنظمة تلك الدول، كما الحال مع كوبا وإيران. وفي الوقت عينه، تعمل على بناء تحالفات في أقاليم العالم، تحفظ لها مصالحها في تلك الأقاليم من جهة، وتطوّق خصومها الصاعدين من جهة ثانية. وكانت في زمن هيمنتها العالمية المطلقة تعتمد على وكلاء إقليميين، قد تستغني عن بعضهم، اليوم، لصالح لاعبين أقوياء في الإقليم نفسه، فمن يصلح وكيلاً لا يصلح بالضرورة حليفاً. ولنا في تقارب أميركا مع الهند، أخيراً، على حساب باكستان، خير مثال على ذلك.
نشهد اليوم فترة انتقالية نادرة، تصعد فيها قوى وتهبط أخرى، لا على مستوى العالم فحسب، بل على مستوى كل إقليم، وبات من الواضح أن شكل العالم الذي عهدناه سيتغير في مستقبل لا يبدو بعيداً. والأمل أن ينتهي صدام "الصفائح التكتونية" لتوازنات القوى الدولية، من دون حروب يفوق دمارها ذلك الذي تخلفه الزلازل والبراكين الناجمة عن حركة الصفائح التكتونية للجغرافيا.
تفكّكَ الاتحاد السوفييتي، والاقتصاد الأميركي يشكل ما نسبته 26.3% من الاقتصاد العالمي (أنظر أرقام صندوق النقد الدولي حول الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة والعالم بحسب القيمة الحالية بالدولار)، ووصلت تلك النسبة مع نهاية عهد كلينتون عام 2000 إلى 31%، ثم بلغت ذروتها في نهاية عام 2002، ووصلت إلى 32%، أي أن أميركا كانت تنتج أقل بقليل من ثلث ما كان ينتجه العالم برمته. وتزامنت ذروة الصعود الاقتصادي الأميركي هذه مع ذروة الغطرسة الأميركية، حين أطلق جورج بوش الإبن حربيه على أفغانستان والعراق.
وكما هو معروف؛ تزامن تراجع الهيمنة الاقتصادية الأميركية في السنوات الماضية مع صعود دول الاقتصادات الناشئة، أو متوسطة الدخل، وفي مقدمتها الصين، والهند، وروسيا، والبرازيل، وإندونيسيا، والمكسيك. حيث، وبحسب بيانات البنك الدولي لعام 2011؛ تستحوذ اقتصادات تلك الدول الست على 32.3% من إجمالي الناتج المحلي العالمي (وهي نسبة تماثل ما كانت تستحوذ عليه أميركا وحدها من إنتاج العالم نهاية عام 2002)، بينما شكلت أكبر ستة اقتصادات مرتفعة الدخل في العالم، وهي الولايات المتحدة، واليابان، وألمانيا، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وإيطاليا؛ حوالى 32.9% من إجمالي الناتج المحلي العالمي.
وعلى الرغم من أن صعود دول الاقتصادات المتوسطة، وفي مقدمتها الصين، كان متوقعاً، نظراً لمعدلات نموها القياسية؛ إلا أن محللين كثيرين استبعدوا أن تتمكن تلك الدول من إطاحة هيمنة الولايات المتحدة، ومعها الغرب عموماً، على المديين، القريب والمتوسط، نظراً للفجوة التكنولوجية الكبيرة بينها والغرب (ربما باستثناء روسيا)، والتي كان يُعتقد أن ردمها سيكون أبطأ بكثير من ردم تلك الاقتصادية، وهو افتراض لم تدعمه المتغيرات التي حصلت خلال السنوات الأخيرة، حيث تشير تقديرات اليوم إلى أن الصين قادرة على اللحاق بالغرب تكنولوجياً في غضون عشر سنوات فقط، كما استطاعت الهند أن تحقق قفزات هائلة على هذا الصعيد، في السنوات القليلة الماضية. فالوفورات الاقتصادية الكبيرة التي حققتها تلك الدول مكّنتها من نقل كثير من تكنولوجيا الغرب، سواء بشكل شرعي عبر اشتراط "نقل التكنولوجيا" في الصفقات الصناعية والعسكرية الكبرى، أو غير شرعي عبر التجسس الصناعي. هذا علاوة على إنفاقها المتزايد على البحث والتطوير والتعليم الجامعي.
عملت الولايات المتحدة الأميركية، منذ بداية عهد باراك أوباما، على إدارة انحدار قوتها على المستوى الدولي، وأخذت تنسحب، بشكل هادئ ومنظم، من مناطق تَدَخُّلها المباشر، وعمدت إلى تسوية خلافاتها مع دول عدة كان يبدو، حتى الأمس القريب، أن بعضها عصيّ على الحل، إلا بإسقاط أنظمة تلك الدول، كما الحال مع كوبا وإيران. وفي الوقت عينه، تعمل على بناء تحالفات في أقاليم العالم، تحفظ لها مصالحها في تلك الأقاليم من جهة، وتطوّق خصومها الصاعدين من جهة ثانية. وكانت في زمن هيمنتها العالمية المطلقة تعتمد على وكلاء إقليميين، قد تستغني عن بعضهم، اليوم، لصالح لاعبين أقوياء في الإقليم نفسه، فمن يصلح وكيلاً لا يصلح بالضرورة حليفاً. ولنا في تقارب أميركا مع الهند، أخيراً، على حساب باكستان، خير مثال على ذلك.
نشهد اليوم فترة انتقالية نادرة، تصعد فيها قوى وتهبط أخرى، لا على مستوى العالم فحسب، بل على مستوى كل إقليم، وبات من الواضح أن شكل العالم الذي عهدناه سيتغير في مستقبل لا يبدو بعيداً. والأمل أن ينتهي صدام "الصفائح التكتونية" لتوازنات القوى الدولية، من دون حروب يفوق دمارها ذلك الذي تخلفه الزلازل والبراكين الناجمة عن حركة الصفائح التكتونية للجغرافيا.