أحزان المرأة السورية.. أي حضن للوطن؟
يحتفي كثيرون في بيانات يوم المرأة العالمي بتمجيدها؛ الثناء عليها أمًّا وزوجة وحبيبة ورفيقة ومناضلة وسجينة وشهيدة، أو إذا شئنا نصف المجتمع أو كله، باعتبارها أمًّا لكل من ذكرنا. ويمكن لنا تأمّل العلاقة مع يومها على ضوء واقعها وأحزانها المثقلة على امتداد مساحة معاناتها عربياً، وهي مساحة تضيق على المرأة بما تمتلك من هوية وحرية يجري المساس بها.
لعل مفهوم التضامن مع المرأة يشكل البوابة الذهبية لبعض من يمتهن كرامتها، لإظهار تضامن ملفق بالقفز عن أحزانها، فصورة "الأم والشهيدة" يجري اختزالها مع لون واحد من الأمهات، أو امرأة يريدها إعلام يستهلك صورتها. بين المرأة والوطن مساحة شاسعة، وإن كانت فوق ترابه أو في المنافي البعيدة والقريبة. بين المسافتين تقفز المرأة السورية، فهي في وطنها أصبحت ثكلى في كل شيء، مفجوعة بفلذات الأكباد وبالزوج والابن والأخ والحبيب، سجينة معذبة مهانة مطاردة مقتولة مغتصبة، يختلس السجان والقاتل منها كل ذلك. وخارج وطنها تتحدد إقامتها في مخيمات اللجوء، وفي منافي القهر والاضطهاد التي تستحيل وطنًا أو أوطانًا للمرأة السورية.
لم تكن مشاركة المرأة السورية في الثورة بالأمر السهل، ولم تسلم من الاعتقال والتعذيب والقتل. لقد أدركت قضيتها الاجتماعية والسياسية مبكرًا، منذ أن محا "البعث" يوم الاحتفاء بها واستبدله بيوم التغني باستيلائه على السلطة. كل محاولات تدجينها واستثمارها سلعةً يسوقها النظام "كديكور"، أو "برستيج" سياسي واجتماعي واقتصادي، كانت تهدف إلى تدجين كل المجتمع، فهي القانطة والخائفة والمقهورة على كل ما أنجبت أو ستنجب، من خلالها تسربت ثقافة الخوف، ومنها أيضاً تسربت ثقافة التمرد والنهوض ضد الطاغية.
وحدها المرأة السورية من حولت ثقافة الخوف إلى ثقافة التحدي والثورة، برغم أحزانها المتدفقة كشلال دم لا يتوقف. وضريبةً لهذه الإرادة، تدفع المرأة السورية ثمن استغلالها ولوعتها وانكساراتها المترامية على مساحة وطنها. لكنها أمام سطوة الظلم والطغيان لم تعجز في إطلاق صوتها "المختلف" الثائر والمنتفض. هي لا تتنظر بيانات الاحتفاء الرسمي بها بعبارات رجم عوالم "الشر" و"الإمبريالية" ونداء بناء "مملكة الطهر"، إن لم يبلغ التعاطف الحميم معها حدّ رفض كل أدوات القهر والظلم والقتل. فدون تعرية ومحاصرة قاتل زوجها ومغتصبها وسارق أحلامها لا معنى لبيانات جوفاء تمجّدها، وشفاه تطبع قبلات على سكين يضعها الطاغية تحت بيانات الاحتفاء بها.
تحتضن أحزان المرأة السورية في الأعوام الخمسة المنقضية كل المُركبات الأخلاقية، من حيث كونها إنسان البداية والنهاية لمفهوم الوطن والمواطنة، ومنطلقًا جوهريًّا لبدء عملية التحرر والانعتاق من الظلم والقهر إلى نيل الحرية في مفهومها الشامل، فكل موقف لا يكون لصيقًا بقضاياها المذكورة لا معنى له، ويبتعد عن المدار الأخلاقي لمعاناتها المرتبطة أصلًا مع معاناة كل وطنها. من يدافع عن المرأة يدافع عن كل إنسان يحظى بكرامته، وكل دفاع منقوص نفي لمفهوم الوطن.
استبدل الطغيان حضن المرأة بـ"حضن الوطن" للعودة إليه. لا حضن للوطن في سورية بدون المرأة، ولا حضن للوطن في قاع الزنازين والمعتقلات وشواهد القبور المبعثرة والجثث المدفونة بفعل براميل وصواريخ متفجرة، حواضن الوطن نساء ورجال وأطفال وشيوخ وشباب تمتهن كرامتهم وحواضنهم في معتقل كبير يسمى وطنا. لا سبيل للعثور على المرأة للاحتفاء بيومها. هي كل الوطن ودائرته الواسعة التي تضم كل الباحثين عن الحرية؛ عن الخلاص من المأساة اللامعقولة للمرأة التي يتسع حضنها لوطن لا العكس.