قبل وبعد... بدون "خرطشة" الكلام

19 ابريل 2020
+ الخط -
دعتنا الصديقة إيمان الجابر، للتفاعل مع صفحة على فيسبوك، تحمل اسم "قبل وبعد" وكما قدمتها هي "مجموعة لتوثيق التجارب السورية العامة والخاصة قبل 2011 وبعدها، ممكن نحكي عن تفاصيل وقصص ومفارقات كنا نعيشها قبل أو صرنا نعيشها بعد .. غيرتنا .. وشو تركت أثر فينا!".

تأملت فيضاً من الكلمات، عن هذا الإنسان السوري المحتجز بين سماء يبتهل لها، وعدالة نفته خارجها، وعن "خرطشات" كلام أهدته طعنات في ضميره وإنسانيته، وفشلت في تعقب خريطة آلامه الممتدة خمسة عقود ونيف، لتُبقي شرخاً وارتجاجاً رأبه مستحيل وتوازنه مفقود، كل التجارب غير مألوفة لكنها معروفة في مجلس عزاء "الضمائر" التي أضرم نارها نظام حاول النفاذ لماضينا وطمسه، وإلى حاضرنا ليقتله ويقتلعه من جذوره، ويحاول النفاذ إلى مستقبلنا بخدش حياء عقلنا وحمله على تابوت لا يريدك الاقتراب منه، بل يريدك أن تطوف به مردداً ابتهالاته عن ظهر خيبة.

تفاصيل للمدن والقرى والأزقة، وللبشر تخطها تجارب من حملوا في ذاكرتهم جزءاً من تفاصيل الحكاية من ألفها إلى يائها، كيف كانت قبل وكيف أصبحت بعد، والعبارة تعني زمنين مختلفين اختزل فيهما السوري بين الأسد والبلد، ومن حيز الكواليس التي شغلت حياة السوريين عقوداً طويلة، إلى الهواء الطلق التي تضاعفت أهميته يوماً ما في مارس/آذار 2011..


وكيف عكست تحولات التاريخ السوري شرطاً تاريخياً، ارتبط بتشكيلة المجتمع السوري التي حجبته "ايديولوجيا" البعث ووضعته تحت رقابة أمنية حكمت عملية تطوره توثيق التجارب، ليس نسق أفكار، أو أقوال، فهي تكونت عبر حركة التاريخ والممارسات المحددة تحت علاقات اجتماعية واقتصادية وأمنية ولغوية تشي بمضمون واحد "القمع والقهر" كحدود داخلية سمح للعقل السوري أن يكون مسقوفاً بهما، فكانت نقاط ارتكاز مادية تجعله يختزن فيه واقعاً وتاريخاً مكنه من النجاة من رقابة التنظير والأيديولوجيا التي قذف بهما، ففي اللحظة التي كانت توصد فيها آفاق السوريين، كانت التجربة تفتح أفقاً آخر يلتبس على كل من ادعى معرفة تفاصيل الحكاية وآثارها من قبل ومن بعد..

عبارات بسيطة عن المدرسة والبيت والعمل والجيش والطبيعة والمال والفن والأدب والسياسة، وعن كل تفصيلة من تفاصيل الحياة، تقود إلى نتيجة واحدة، أن النظام القائم على بيع وشراء كرامة البشر لتأمين سيطرة مطلقة على الوطن بعلاقة مناقضة للإنسان ذاته لا يعرف تفاصيلها سواه، سمحت له بتحليل حقب متعاقبة من القهر والقمع وتحت أي شرط تشكلت إرادة التمرد واستعمالها وتحويلها لأداة فعل مباشرة..

فهذا سوري غادر وطنه في عهد نور الدين الأتاسي وعاد إليها زائراً بعد عقدين 1986 يسأله موظف الجمارك "شو جبت لنا معك؟" أجابه معي أشياء كثيرة لكنها ليست لك فهي لأسرتي، لم يكن يعرف أن أجهزة كثيرة للأمن تم بناؤها ولا كم الخراب الذي وقعت فيه البلاد، كانت كلمة واحدة من موظف الأمن كافية لتقلب حياته التي أراد أن ينقذها من حكم البعث قبل عقدين، وآخر يوثق ما أسست له منهجية "خيو للقائد حافظ الأسد" زمن سرايا الدفاع، لتحل محلها في زمن الابن فرقة خيو للقائد الرابعة.

كثير من تفاصيل الشهادات والوثائق التي حملتها ثورة السوريين وتجاربهم في القهر والموت والهجرة والخذلان، لم تُكتب بعد ولم تُرو ولم تشأ الظروف الموضوعية للكشف عنها، لكن تفصيله صغيرة من عبارات كثيرة تكفي لإحداث ثورة، قبل زمن الأسد الابن أحيط بالسوريين كل يوم ملايين الأسباب التي تدفعهم للثورة على الأب، بعد 2011، تيقن السوريون من أسبابهم المضاعفة ومستحيلة التقزيم والإخضاع، وبات لهم شكلهم الخاص القاسي في حطامهم ودمهم لاستعادة سورية لزمن ما قبل كارثة سطو الأسد الأب والابن على البلد لا على الذاكرة، وبدون خرطشة الشعارات.
AF445510-4325-4418-8403-7DA0DAAF58C1
نزار السهلي
كاتب وصحافي فلسطيني مقيم في فرنسا يقول: طقسٌ رتيب في الرحيل وشقاء ولجوء، يعقبه حلم لا ينطفىء في زمن غير معلوم تحدده الإرادة العليا، هي ملامح سحنتي التي تشبه انتحاب اللاجئين في المُثل الواهمة.