يميل الأخوان إيثان وجويل كون إلى الكوميديا، المختلطة بسخرية لاذعة وقاسية تطاول أحوالاً وأناساً ومسائل. الكوميديا، لديهما، نتاج نقد سجاليّ مبطّن ورؤية ثاقبة في أعماق كل موضوع تحت مبضع فكاهتهما المرّة والحادّة. هي، من ناحية أخرى، مثالٌ لكيفية جعل الصورة السينمائية مرآة تفضح عبر الضحك، وتُشرِّح عبر إيحاءات بصرية ببساطة المعالجة أو الموقف، واضعةً الجميع أمام عدسة سينمائية تذهب إلى ما هو أبعد من المرئي: ماذا يجول في خاطرهما، عندما يقرران تحويل قصة تبدو عادية إلى نص سينمائي يبدو كوميدياً، فإذا بالقصة أعمق من الظاهر، وإذا بالنص يستعين بالكوميديا لتبيان حقائق، وكشف وقائع. هذا باختصار الإطار لفيلمهما الأخير "هايل، سيزار!".
تعاون أخوي
المهمة صعبة، طبعاً. لكنها لن تكون "مستحيلة"، لأن الأخوين يدركان تماماً مفاتيحها وخفاياها، ويتقنان مساراتها الخفية والمكشوفة. الكوميديا واجهة أساسيةٌ تستوفي شرطها الفني، كي تصوغ خطاباً بصرياً يفكّك وقائع العيش في المتاهات الإنسانية؛ ونمط جوهري في تشييد بناء درامي متماسك، يولي الضحك أهمية، من دون أن يتيح له فرصة الطغيان المطلق على النصّ.
والنصّ، إذ يتعاونان معاً على كتابته منذ بداياتهما السينمائية، لن يبقى أسير الكوميديا المنمقة بسوداويتها وتأثيراتها وحدّتها. فالكتابة، معهما، تنفتح على الدرامي والـ "ثريلر"، بقدرٍ واف من الجماليات المتنوّعة في إثارة مشاعر هيبة أمام كل فيلم لهما، وفي التقاط نبض الحياة، المفتوحة على ألف همّ وسؤال.
تعاونهما على الكتابة سابق لكل تعاونٍ آخر بينهما في مجالات سينمائية أخرى. لغاية العام 2003، يتفرّد جويل بالإخراج، قبل أن ينضم إيثان ـ المهتم حينها بالإنتاج ـ إليه، بدءاً من العام 2004، عندما يحققان سويةً "قتلة السيّدة" كمخرجين اثنين، بالإضافة إلى انشغالهما بمسائل فنية أخرى، كالمونتاج تحديداً، الذي يظهر اسم مستعار يجمعهما معاً أحياناً، هو رودريك جاينز.
هذا ما هو حاصل في فيلمهما الأخير: "هايل، سيزار!". الكتابة والإخراج والإنتاج لهما، وإنْ يكن الإنتاج مشتركاً مع آخَرَين، هما تيم بيفان وايريك فيلنر. والجديد هذا، الذي يُركّز على دهاليز العمل في الاستديوهات الهوليوودية، يندرج في سياق الكوميديا. دهاليز صناعة السينما وكواليسها جانب كبير من الحكاية، المفتوحة ـ في الوقت نفسه ـ على مسألة العلاقات القائمة بين الناس في الحبّ والدين والجنس، وعلى سؤال الطبقية الاقتصادية ـ الاجتماعية المطروح في علاقة كتّاب سيناريوهات بالاستديوهات وشركات الإنتاج، وعلى العنوان الكبير للصراع بين الاشتراكية ـ الشيوعية والتسلط الرأسمالي، وعلى مفهوم الإيمان والاشتباك الدائم بينه وبين واقع الحياة اليومية، المناقض له تماماً.
أفلام في فيلم
نص "هايل، سيزار!"، السينمائي مشيد على 3 ركائز أساسية: كواليس العمل المهني داخل استديوهات هوليوود وشركاتها الإنتاجية وعوالمها السينمائية المختلفة؛ الصراع بين كتاب السيناريوهات (الذين يمثّلون الجانب الاشتراكي ـ الشيوعي)، والاستديوهات وشركات الإنتاج نفسها (التي تعكس التسلط الرأسمالي الوحشي)؛ وشخصية السيد المسيح في عيون رجال دين مسيحيين ويهود. في كل ركيزة منها، تشكل "الفكاهة السوداء"، كامتداد سينمائي لـ "الكوميديا الساخرة"، جوهر السجالات المكتوبة في حوارات متينة البناء الدرامي، وثاقبة النظر في تفكيك مضامينها وتعرية الشخصيات التي تقولها. هذا كله منطلق من شخصية رئيسية واحدة: إدي مانيكس (جوش برولن)، الذي يعمل لحساب استديو هوليوودي في خمسينيات القرن الـ 20. وظيفته؟ "المتدخّل". هذا يعني أنه مطالب بالتدخل بكل ما يجري داخل الاستديو وخارجه: مشاكل الممثلين/ الممثلات أثناء عملهم، وخارج العمل أيضاً (الإدمان على الكحول، العلاقات الجنسية والحمل، إلخ.)؛ ومواجهة الصحافة أو التحاور معها؛ والعثور على من يحل بديلاً من ممثل آخر. هناك، أيضاً، العثور على المشترك بين رجال الدين، المسيحيين واليهود، إزاء سيناريو فيلم عن قيصر روماني يلتقي السيد المسيح. بالإضافة إلى بحثه عن الممثل بيرد ويتلوك (جورج كلوني)، الذي يُختطف فجأة أثناء تصويره لقطات من الفيلم الروماني هذا، إلخ.
اقرأ أيضًا: لا ممثلين وممثلات سودا في ترشيحات "الأوسكار" 2016
الممثل المخطوف يتحول إلى محاورٍ بارع مع خاطفيه. أما خاطفوه، فهم كتّاب السيناريوهات الغاضبون من سلطة "الرأسمالية المتوحشّة"، المتمثّلة بالاستديوهات الهوليوودية، "التي تدفع أجوراً زهيدة، مع أنها تُكدِّس أرباحاً هائلة في خزائنها". هذه لقطات بديعة الصُنعة لشدّة ما تحتويه من سخرية "تكاد لا تقف عند حدّ"، كما في تعليق نقدي. لقطات يُضاف إليها تلك المتعلّقة بمشاكل الممثلين مع المنتجين أو المخرجين مثلاً، أو بـ "الحوار الصاخب" (والبديع في سخريته وليونته وجمالياته الفنية والدرامية والكلامية) بين رجال دين مسيحيين ويهود حول كيفية رسم ملامح شخصية المسيح في سيناريو الفيلم الروماني، أو في أحد المشاهد الأخيرة للفيلم الرومانيّ نفسه (هايل، سيزار!)، عندما يلتقي القيصر الروماني (كلوني) بالسيّد المسيح (لا تظهر شخصيته بوضوح أمام الكاميرا).
فيلمٌ داخل فيلم؟ بل "أفلام عديدة" في فيلم واحد: لورانس لورنز (رالف فينيس) يُصوّر فيلماً درامياً، ويحتاج إلى ممثل بديل عن ذاك المنسحب، فإذا بمانيكس يحوّل هوبي دويل (آلدن إيرنرايخ) من ممثل أفلام رعاة بقر (هنا أيضاً تظهر السخرية من أفلام رعاة البقر، في إحدى أجمل تجلياتها) إلى ممثل درامي. أما بيرت (تشانينغ تاتوم)، فيمثل في فيلم غنائي عن بحّارة "يبكون" حظّهم ـ غناءً ورقصاً ـ لأنهم سيغادرون الميناء ولن يلتقوا بنساءٍ لأشهر مديدة.
هذا كلّه في إطار متكامل من السرد الموزّع على خطوط متوازية، تتكامل فيما بينها كي تصنع من "هايل، سيزار!" واحداً من الأفلام الجميلة والمهمة بسخريتها وانتقاداتها وحيويتها الفنية، التي يصنعها الأخوان جويل وإيثان كُوِن في مسارهما المهنيّ.
(كاتب لبناني)
تعاون أخوي
المهمة صعبة، طبعاً. لكنها لن تكون "مستحيلة"، لأن الأخوين يدركان تماماً مفاتيحها وخفاياها، ويتقنان مساراتها الخفية والمكشوفة. الكوميديا واجهة أساسيةٌ تستوفي شرطها الفني، كي تصوغ خطاباً بصرياً يفكّك وقائع العيش في المتاهات الإنسانية؛ ونمط جوهري في تشييد بناء درامي متماسك، يولي الضحك أهمية، من دون أن يتيح له فرصة الطغيان المطلق على النصّ.
والنصّ، إذ يتعاونان معاً على كتابته منذ بداياتهما السينمائية، لن يبقى أسير الكوميديا المنمقة بسوداويتها وتأثيراتها وحدّتها. فالكتابة، معهما، تنفتح على الدرامي والـ "ثريلر"، بقدرٍ واف من الجماليات المتنوّعة في إثارة مشاعر هيبة أمام كل فيلم لهما، وفي التقاط نبض الحياة، المفتوحة على ألف همّ وسؤال.
تعاونهما على الكتابة سابق لكل تعاونٍ آخر بينهما في مجالات سينمائية أخرى. لغاية العام 2003، يتفرّد جويل بالإخراج، قبل أن ينضم إيثان ـ المهتم حينها بالإنتاج ـ إليه، بدءاً من العام 2004، عندما يحققان سويةً "قتلة السيّدة" كمخرجين اثنين، بالإضافة إلى انشغالهما بمسائل فنية أخرى، كالمونتاج تحديداً، الذي يظهر اسم مستعار يجمعهما معاً أحياناً، هو رودريك جاينز.
هذا ما هو حاصل في فيلمهما الأخير: "هايل، سيزار!". الكتابة والإخراج والإنتاج لهما، وإنْ يكن الإنتاج مشتركاً مع آخَرَين، هما تيم بيفان وايريك فيلنر. والجديد هذا، الذي يُركّز على دهاليز العمل في الاستديوهات الهوليوودية، يندرج في سياق الكوميديا. دهاليز صناعة السينما وكواليسها جانب كبير من الحكاية، المفتوحة ـ في الوقت نفسه ـ على مسألة العلاقات القائمة بين الناس في الحبّ والدين والجنس، وعلى سؤال الطبقية الاقتصادية ـ الاجتماعية المطروح في علاقة كتّاب سيناريوهات بالاستديوهات وشركات الإنتاج، وعلى العنوان الكبير للصراع بين الاشتراكية ـ الشيوعية والتسلط الرأسمالي، وعلى مفهوم الإيمان والاشتباك الدائم بينه وبين واقع الحياة اليومية، المناقض له تماماً.
أفلام في فيلم
نص "هايل، سيزار!"، السينمائي مشيد على 3 ركائز أساسية: كواليس العمل المهني داخل استديوهات هوليوود وشركاتها الإنتاجية وعوالمها السينمائية المختلفة؛ الصراع بين كتاب السيناريوهات (الذين يمثّلون الجانب الاشتراكي ـ الشيوعي)، والاستديوهات وشركات الإنتاج نفسها (التي تعكس التسلط الرأسمالي الوحشي)؛ وشخصية السيد المسيح في عيون رجال دين مسيحيين ويهود. في كل ركيزة منها، تشكل "الفكاهة السوداء"، كامتداد سينمائي لـ "الكوميديا الساخرة"، جوهر السجالات المكتوبة في حوارات متينة البناء الدرامي، وثاقبة النظر في تفكيك مضامينها وتعرية الشخصيات التي تقولها. هذا كله منطلق من شخصية رئيسية واحدة: إدي مانيكس (جوش برولن)، الذي يعمل لحساب استديو هوليوودي في خمسينيات القرن الـ 20. وظيفته؟ "المتدخّل". هذا يعني أنه مطالب بالتدخل بكل ما يجري داخل الاستديو وخارجه: مشاكل الممثلين/ الممثلات أثناء عملهم، وخارج العمل أيضاً (الإدمان على الكحول، العلاقات الجنسية والحمل، إلخ.)؛ ومواجهة الصحافة أو التحاور معها؛ والعثور على من يحل بديلاً من ممثل آخر. هناك، أيضاً، العثور على المشترك بين رجال الدين، المسيحيين واليهود، إزاء سيناريو فيلم عن قيصر روماني يلتقي السيد المسيح. بالإضافة إلى بحثه عن الممثل بيرد ويتلوك (جورج كلوني)، الذي يُختطف فجأة أثناء تصويره لقطات من الفيلم الروماني هذا، إلخ.
اقرأ أيضًا: لا ممثلين وممثلات سودا في ترشيحات "الأوسكار" 2016
الممثل المخطوف يتحول إلى محاورٍ بارع مع خاطفيه. أما خاطفوه، فهم كتّاب السيناريوهات الغاضبون من سلطة "الرأسمالية المتوحشّة"، المتمثّلة بالاستديوهات الهوليوودية، "التي تدفع أجوراً زهيدة، مع أنها تُكدِّس أرباحاً هائلة في خزائنها". هذه لقطات بديعة الصُنعة لشدّة ما تحتويه من سخرية "تكاد لا تقف عند حدّ"، كما في تعليق نقدي. لقطات يُضاف إليها تلك المتعلّقة بمشاكل الممثلين مع المنتجين أو المخرجين مثلاً، أو بـ "الحوار الصاخب" (والبديع في سخريته وليونته وجمالياته الفنية والدرامية والكلامية) بين رجال دين مسيحيين ويهود حول كيفية رسم ملامح شخصية المسيح في سيناريو الفيلم الروماني، أو في أحد المشاهد الأخيرة للفيلم الرومانيّ نفسه (هايل، سيزار!)، عندما يلتقي القيصر الروماني (كلوني) بالسيّد المسيح (لا تظهر شخصيته بوضوح أمام الكاميرا).
فيلمٌ داخل فيلم؟ بل "أفلام عديدة" في فيلم واحد: لورانس لورنز (رالف فينيس) يُصوّر فيلماً درامياً، ويحتاج إلى ممثل بديل عن ذاك المنسحب، فإذا بمانيكس يحوّل هوبي دويل (آلدن إيرنرايخ) من ممثل أفلام رعاة بقر (هنا أيضاً تظهر السخرية من أفلام رعاة البقر، في إحدى أجمل تجلياتها) إلى ممثل درامي. أما بيرت (تشانينغ تاتوم)، فيمثل في فيلم غنائي عن بحّارة "يبكون" حظّهم ـ غناءً ورقصاً ـ لأنهم سيغادرون الميناء ولن يلتقوا بنساءٍ لأشهر مديدة.
هذا كلّه في إطار متكامل من السرد الموزّع على خطوط متوازية، تتكامل فيما بينها كي تصنع من "هايل، سيزار!" واحداً من الأفلام الجميلة والمهمة بسخريتها وانتقاداتها وحيويتها الفنية، التي يصنعها الأخوان جويل وإيثان كُوِن في مسارهما المهنيّ.
(كاتب لبناني)