21 سبتمبر 2024
"ماتريوشكا" العرب وزفرتهم الأخيرة
استمرار الحياة هو غاية المجموعة البشرية التي لا بد لها من حيازة تصور للطريقة التي تغدو معها هذه الحياة ممكنةً. تتجسد هذه الغائية الاجتماعية في السلطة بتلاقي التمثيلات التي يصنعها أعضاء الجماعة، حول صورةٍ معينةٍ لتنظيمهم الاجتماعي السياسي الأمثل. تحدّد الأولويات الاجتماعية توافقا حول أشكال المنافسة التي يمكن للأعضاء من خلالها الفوز بالسلطة. الاستقرار الاجتماعي وضبط آليات ممارسة السلطة يستوجبان أن تُستَمد السلطة السياسية من تلك السلطة الأخلاقية القارّة في ذهن الجماعة، والتي تشكل فكرةً للحق توفق بين ضرورة الطاعة وشرعية "الأمر".
يؤدي تنوع الحقيقة الاجتماعية إلى تمثيلاتٍ متعدّدة، تتعدّد معها فِكَر الحق، ما يؤدي إلى تنافسٍ للفوز بممارسة السلطة. لكن السلطة لا تكتفي أن تكون رهاناً للسياسة، بل هي فاعلٌ يسهم في هذا الصراع عبر ممارسة الحكم، فبحيازتها "الأمر" توّلد النظام، لكن بوجود المنافسين هناك أيضا حركة، وعليها إدارة هذا الصراع بالحفاظ على جدلية النظام والحركة. وبالفصل بين السلطة ومن يمارسونها، تبرز الدولة، بوصفها المؤسسة التي تستقرّ فيها السلطة، والتي في وسعها حل التناقض الكامن في السلطة، بين كونها إكراهاً (فردياً) وكونها ضرورة حتمية (اجتماعياً).
توفر أنظمة السلطة المفتوحة مرونةً تمكّنها من تكييف السلطة مع المعطيات الجديدة، وتوفر فرصاً لتضمين بعض مطالب فِكَر الحق الأخرى بين مشاريعها. أما في أنظمة السلطة المغلقة، فممارسة السلطة ليست رهانا للمنافسة السياسية، والدولة هنا أداة سياسية، تحتكر تطلعات المجموعة بأكملها. استمرار هذه التوليتارية بقي مرهوناً بشكل رئيس بقدرة الثروة البشرية للمجموعة على تحمل أشكال الإقصاء العنيفة. فبينما استمرت العقيدة الستالينية عقوداً، على الرغم من تسببها في مقتل عشرات الملايين، لم يدم نظام بول بوت في كمبوديا سوى أربع سنوات، بعد قتلٍ لحوالي مليونين، من تعداد سكاني لا يتجاوز ثمانية ملايين.
مع الثورة الصناعية الأولى، ومزاحمة المكننة القوى العاملة، كان استيلاء جماهير العمال على السلطة حلاً مغرياً. لكن، مع تطور المجتمع الصناعي، في ظل الدولة الليبرالية، تغلب التقدم العلمي والتقني على ندرة الطبيعة، ليرتبط التقدم الاجتماعي بالوفرة، أكثر من ارتباطه بالعدالة. وحلت اشتراكية الإدارة مكان الاشتراكية التوزيعية. أصبح النضال السياسي أقلّ حدة، ومن خلال التمييز بين الاجتماعي والسياسي، تمت مأسسة النشاط التناحري، وبقي المجتمع في منأىً عن الفوضى التي يتسبب فيها اشتداد المنافسة السياسية، لتتكيّف الدولة مع المتطلبات الموضوعية التي يفرضها سير العمل المنظم، فقامت سلطتها على عقلنة المجتمع، وحلّ السؤال: ما الذي سيفعله الملك؟ مكان سؤال: من هو الملك؟
في هذا النمط الوظيفي للدولة، تتحكّم ذهنية الإدارة بالنظام السياسي، ولم تعد مهمة السياسة ادعاء تغير مبادئ المجتمع نفسه، بل إدارة حقيقته الاجتماعية. بات فعل السياسة يتجّه أيضاً، من الأسفل إلى الأعلى، لتكون الدولة لجميع مواطنيها. وباجتياح مقتضيات المجتمع التقني الوعيَ الجمعي، يصبح الأفراد اجتماعيين بالكامل، والانقسامات العمودية في حدودها الدنيا، فالجميع مواطنون، يناضلون للحصول على أكبر قدر من الفوائد في المجتمع القائم، بدلاً من الرغبة في تغييره. هكذا تستمر الدولة الليبرالية مشروعاً جماعياً، يعبر عن وعي سياسي، وأداةً يؤكد فيها المجتمع سيطرته على ذاته، مهما شاب هذا المشروع من نقص.
بعد أن عطّلت الوحدة الدينية الكفاح ضد السلطنة العثمانية، أتاح الكفاح الشعبي في ظل الانتداب فرصة الانتقال إلى نمطٍ من التعدّدية السياسية، وكانت ولادة الأحزاب وحركات التحرّر العربية التي أتيحت لها المنافسة في ظل مؤسسات تمثيل ليبرالي تحت شروط الهيمنة الاستعمارية، وعلى الرغم من شعاراتها الأيديولوجية المتنوعة، بدا الاستقلال أساساً لفكرة الحق الوطني التي تناسبت مع أولويات الوعي الجمعي، والعاطفة الجماهيرية.
استمر التنافس في ظل نزعة ليبرالية، حتى استيلاء النخب العربية "التقدمية"، عبر سلسلة من الانقلابات العسكرية على السلطة. حقق طريق التطور الـ "لا رأسمالي" الذي انتهجته هذه النخب نجاحاً نسبياً في تأهيل أقاليم ما بعد الاستقلال لصالح الفئات المعدمة وأبناء الريف، واحتشد مثقفون وقطاعات واسعة من الجماهير خلف شعاراتها الأيديولوجية، ومعاركها ضد الاستعمار والصهيوينة وبقايا ما فَلَّ من رجعية. بعد إخفاقات الداخل وهزائم الخارج، مضت تلك النخب في تكريس نفسها أيديولوجيا شمولية، مثلت أنساقاً مغلقةً من السلطة الأبوية، وألغت المنافسة السياسية، أو أطرتها على طريقتها. ومع جبهوية العمل السياسي تحت قيادة الحزب العقائدي، أنتجت القواسم المشتركة بين أيديولوجيا السلطة والمعارضة خطاباً توفيقياً، صبّ في صالح تعزيز مواقع النخب الحاكمة واستراتيجياتها، على حساب المعارضة. عدم الاستقلال المادي والسياسي للأحزاب الجبهوية جعل سياساتها رهاناً على غنائم السلطة، فخسرت ما تبقى لها من رصيدٍ جماهيري. أما المعارضة السرية التي انشقت أساساً عن العمل الجبهوي، أو خرجت من الفضاء الدعوي، فلم تحمل مشروع دولة، أو نسفته لصالح "الخلافة"، واصطدمت بسقف موازين القوى، وبدورات العنف والعنف المضاد.
مورست السياسة من أعلى إلى أسفل. وبتأطيره، سياسياً وأيديولوجياً، في ظل غياب تنمية بشرية اجتماعية شاملة، عجز الثقافي عن التحول إلى مشروعٍ فلسفيٍّ يبني رؤى وتصورات مشتركة، تنتقل بالثقافي من كونه مُنتَجاً اجتماعياً إلى مُنتِج للاجتماعي. لم تعبر السلطة عن غائية اجتماعية، بل مصالح نخب وأشخاص، وبقيت إكراهاً، فحمى النظام السلطة التي استمدت من القيمة الذاتية لمن يمارسونها، ولم يحم المجتمع والحركة. وفي غياب فكرة عن الحق الوطني، لم يعد الوطن مفهوماً تاريخياً وجغرافياً وحقوقياً، فغاب المواطنون المتساوون في الحقوق والواجبات لصالح الرعايا وواجبهم في الطاعة، ليبقى المجال العام خارج الحداثة السياسية.
منذ التسعينيات ومع التحوّل إلى نظام السوق والخصخصة، مضت النخب الحاكمة وشبكات المصالح المتخالفة معها في ممارسة دور كومبرادوري، في ظل ليبرالية اقتصادية مشوّهة، اقتصرت على الإنتاج الريعي، مع تحولاتٍ ديمقراطيةٍ شكلية لجذب الاستثمارات، انتهت عند صناديق الاقتراع. وفي استمرار غياب الرعاية، تحولت أجهزة الدولة أدواتٍ للجباية. تداخل الحرمان السياسي والبؤس الاقتصادي والاجتماعي مع المآسي الشخصية، مولداً مزيداً من الكراهية، ما عمق أزمة الهوية، والتعارض الحاد بين الانتماءين الوطني السياسي، والولاءات الفرعية.
شكلت وسائل التواصل الاجتماعي مجتمعاً موازياً، تعدّدياً وأكثر تحرراً من إكراه السلطة، كان مجالاً عاماً لحركةٍ افتراضية بأعضاء شبكيين. لكن غياب المشروع الثقافي وتخلف النظام التعليمي وحجم الهوة بين الثقافتين الشعبية والنخبية لم يتح قدرةً على تحويل كم المعلومات التي يتيحها هذا الفضاء إلى معرفة، ولم يتحوّل هذا المجتمع الموازي إلى مجتمع بديل، حين عجز عن إنتاج توافق حول السلطة الأخلاقية التي ينبغي أن تقوم عليها السلطة السياسية.
اصطدم هذا المجتمع الافتراضي بحدود الواقع. وفي غياب فكرةٍ جامعةٍ عن الحق، فإن سقوط رأس النظام، من دون سقوط النخبة الحاكمة، السلطة العميقة والثورات المضادة، التطرّف الإسلامي، غياب دور فاعل للمثقفين، انتهازية أحزاب المعارضة التقليدية،... وغيرها، أعاقت تحولاً ديمقراطياً حقيقياً في ظل مأسسةٍ للسلطة، واختزلته في أحسن الأحوال، إلى انتقال سياسي محدود، واستمرت السلطة رهان المتنافسين الذين لا مشروع لهم سوى الفوز بها. في أسوأ الأحوال، حلت الطائفية مكان الأيدولوجيا، والدويلات بدل الدولة، والجماعة بدل الوطن، والمليشيات بدل الأحزاب السياسية.
عكست إخفاقات "الربيع العربي" حالة الاستعصاء التاريخي المزمن، وحجم المعضلات المتراكمة والمتداخلة، لتبدو أشبه بـ "ماتريوشكا" روسية تبتلع كل دمية فيها الأخرى، مع فارق، أن "الماتريوشكا" العربية تتكون من عددٍ قد لا ينتهي من الدمى المعضلة. فهل انفجر التاريخ العربي ليطرد ما تراكم فيه من قيح قروناً؟ ألا يبدو "الانفجار التاريخي" نظرية في التبرير أكثر من كونها نظرية لتفسيرٍ يقتضي منا تحمل مسؤولياتنا التاريخية؟ أليست تسليماً بفشلنا في رهان المجتمع الدولة، واستسلاماً لرهانٍ على تاريخٍ ما انفكّ يسير خبط عشواء، وبقي أصحابه على الهامش، من دون مشاريع في الاقتصاد والسياسة والفلسفة؟
منذ سقوط غرناطة، لم نكفّ بحثاً عن مناف نطلق منها زفرتنا الأخيرة. فلم الرهان على عون تاريخ لم نجعل منه سيرورة إدراك ذواتنا، تسمح لنا بإنتاج هوية ثقافية وطنية تحت ظلال "الدولة"، بل تركناه لهوياتٍ ترتكز على الذات، وتعرّف نفسها من خلال دورها في مواجهة الآخر؟
يؤدي تنوع الحقيقة الاجتماعية إلى تمثيلاتٍ متعدّدة، تتعدّد معها فِكَر الحق، ما يؤدي إلى تنافسٍ للفوز بممارسة السلطة. لكن السلطة لا تكتفي أن تكون رهاناً للسياسة، بل هي فاعلٌ يسهم في هذا الصراع عبر ممارسة الحكم، فبحيازتها "الأمر" توّلد النظام، لكن بوجود المنافسين هناك أيضا حركة، وعليها إدارة هذا الصراع بالحفاظ على جدلية النظام والحركة. وبالفصل بين السلطة ومن يمارسونها، تبرز الدولة، بوصفها المؤسسة التي تستقرّ فيها السلطة، والتي في وسعها حل التناقض الكامن في السلطة، بين كونها إكراهاً (فردياً) وكونها ضرورة حتمية (اجتماعياً).
توفر أنظمة السلطة المفتوحة مرونةً تمكّنها من تكييف السلطة مع المعطيات الجديدة، وتوفر فرصاً لتضمين بعض مطالب فِكَر الحق الأخرى بين مشاريعها. أما في أنظمة السلطة المغلقة، فممارسة السلطة ليست رهانا للمنافسة السياسية، والدولة هنا أداة سياسية، تحتكر تطلعات المجموعة بأكملها. استمرار هذه التوليتارية بقي مرهوناً بشكل رئيس بقدرة الثروة البشرية للمجموعة على تحمل أشكال الإقصاء العنيفة. فبينما استمرت العقيدة الستالينية عقوداً، على الرغم من تسببها في مقتل عشرات الملايين، لم يدم نظام بول بوت في كمبوديا سوى أربع سنوات، بعد قتلٍ لحوالي مليونين، من تعداد سكاني لا يتجاوز ثمانية ملايين.
مع الثورة الصناعية الأولى، ومزاحمة المكننة القوى العاملة، كان استيلاء جماهير العمال على السلطة حلاً مغرياً. لكن، مع تطور المجتمع الصناعي، في ظل الدولة الليبرالية، تغلب التقدم العلمي والتقني على ندرة الطبيعة، ليرتبط التقدم الاجتماعي بالوفرة، أكثر من ارتباطه بالعدالة. وحلت اشتراكية الإدارة مكان الاشتراكية التوزيعية. أصبح النضال السياسي أقلّ حدة، ومن خلال التمييز بين الاجتماعي والسياسي، تمت مأسسة النشاط التناحري، وبقي المجتمع في منأىً عن الفوضى التي يتسبب فيها اشتداد المنافسة السياسية، لتتكيّف الدولة مع المتطلبات الموضوعية التي يفرضها سير العمل المنظم، فقامت سلطتها على عقلنة المجتمع، وحلّ السؤال: ما الذي سيفعله الملك؟ مكان سؤال: من هو الملك؟
في هذا النمط الوظيفي للدولة، تتحكّم ذهنية الإدارة بالنظام السياسي، ولم تعد مهمة السياسة ادعاء تغير مبادئ المجتمع نفسه، بل إدارة حقيقته الاجتماعية. بات فعل السياسة يتجّه أيضاً، من الأسفل إلى الأعلى، لتكون الدولة لجميع مواطنيها. وباجتياح مقتضيات المجتمع التقني الوعيَ الجمعي، يصبح الأفراد اجتماعيين بالكامل، والانقسامات العمودية في حدودها الدنيا، فالجميع مواطنون، يناضلون للحصول على أكبر قدر من الفوائد في المجتمع القائم، بدلاً من الرغبة في تغييره. هكذا تستمر الدولة الليبرالية مشروعاً جماعياً، يعبر عن وعي سياسي، وأداةً يؤكد فيها المجتمع سيطرته على ذاته، مهما شاب هذا المشروع من نقص.
بعد أن عطّلت الوحدة الدينية الكفاح ضد السلطنة العثمانية، أتاح الكفاح الشعبي في ظل الانتداب فرصة الانتقال إلى نمطٍ من التعدّدية السياسية، وكانت ولادة الأحزاب وحركات التحرّر العربية التي أتيحت لها المنافسة في ظل مؤسسات تمثيل ليبرالي تحت شروط الهيمنة الاستعمارية، وعلى الرغم من شعاراتها الأيديولوجية المتنوعة، بدا الاستقلال أساساً لفكرة الحق الوطني التي تناسبت مع أولويات الوعي الجمعي، والعاطفة الجماهيرية.
استمر التنافس في ظل نزعة ليبرالية، حتى استيلاء النخب العربية "التقدمية"، عبر سلسلة من الانقلابات العسكرية على السلطة. حقق طريق التطور الـ "لا رأسمالي" الذي انتهجته هذه النخب نجاحاً نسبياً في تأهيل أقاليم ما بعد الاستقلال لصالح الفئات المعدمة وأبناء الريف، واحتشد مثقفون وقطاعات واسعة من الجماهير خلف شعاراتها الأيديولوجية، ومعاركها ضد الاستعمار والصهيوينة وبقايا ما فَلَّ من رجعية. بعد إخفاقات الداخل وهزائم الخارج، مضت تلك النخب في تكريس نفسها أيديولوجيا شمولية، مثلت أنساقاً مغلقةً من السلطة الأبوية، وألغت المنافسة السياسية، أو أطرتها على طريقتها. ومع جبهوية العمل السياسي تحت قيادة الحزب العقائدي، أنتجت القواسم المشتركة بين أيديولوجيا السلطة والمعارضة خطاباً توفيقياً، صبّ في صالح تعزيز مواقع النخب الحاكمة واستراتيجياتها، على حساب المعارضة. عدم الاستقلال المادي والسياسي للأحزاب الجبهوية جعل سياساتها رهاناً على غنائم السلطة، فخسرت ما تبقى لها من رصيدٍ جماهيري. أما المعارضة السرية التي انشقت أساساً عن العمل الجبهوي، أو خرجت من الفضاء الدعوي، فلم تحمل مشروع دولة، أو نسفته لصالح "الخلافة"، واصطدمت بسقف موازين القوى، وبدورات العنف والعنف المضاد.
مورست السياسة من أعلى إلى أسفل. وبتأطيره، سياسياً وأيديولوجياً، في ظل غياب تنمية بشرية اجتماعية شاملة، عجز الثقافي عن التحول إلى مشروعٍ فلسفيٍّ يبني رؤى وتصورات مشتركة، تنتقل بالثقافي من كونه مُنتَجاً اجتماعياً إلى مُنتِج للاجتماعي. لم تعبر السلطة عن غائية اجتماعية، بل مصالح نخب وأشخاص، وبقيت إكراهاً، فحمى النظام السلطة التي استمدت من القيمة الذاتية لمن يمارسونها، ولم يحم المجتمع والحركة. وفي غياب فكرة عن الحق الوطني، لم يعد الوطن مفهوماً تاريخياً وجغرافياً وحقوقياً، فغاب المواطنون المتساوون في الحقوق والواجبات لصالح الرعايا وواجبهم في الطاعة، ليبقى المجال العام خارج الحداثة السياسية.
منذ التسعينيات ومع التحوّل إلى نظام السوق والخصخصة، مضت النخب الحاكمة وشبكات المصالح المتخالفة معها في ممارسة دور كومبرادوري، في ظل ليبرالية اقتصادية مشوّهة، اقتصرت على الإنتاج الريعي، مع تحولاتٍ ديمقراطيةٍ شكلية لجذب الاستثمارات، انتهت عند صناديق الاقتراع. وفي استمرار غياب الرعاية، تحولت أجهزة الدولة أدواتٍ للجباية. تداخل الحرمان السياسي والبؤس الاقتصادي والاجتماعي مع المآسي الشخصية، مولداً مزيداً من الكراهية، ما عمق أزمة الهوية، والتعارض الحاد بين الانتماءين الوطني السياسي، والولاءات الفرعية.
شكلت وسائل التواصل الاجتماعي مجتمعاً موازياً، تعدّدياً وأكثر تحرراً من إكراه السلطة، كان مجالاً عاماً لحركةٍ افتراضية بأعضاء شبكيين. لكن غياب المشروع الثقافي وتخلف النظام التعليمي وحجم الهوة بين الثقافتين الشعبية والنخبية لم يتح قدرةً على تحويل كم المعلومات التي يتيحها هذا الفضاء إلى معرفة، ولم يتحوّل هذا المجتمع الموازي إلى مجتمع بديل، حين عجز عن إنتاج توافق حول السلطة الأخلاقية التي ينبغي أن تقوم عليها السلطة السياسية.
اصطدم هذا المجتمع الافتراضي بحدود الواقع. وفي غياب فكرةٍ جامعةٍ عن الحق، فإن سقوط رأس النظام، من دون سقوط النخبة الحاكمة، السلطة العميقة والثورات المضادة، التطرّف الإسلامي، غياب دور فاعل للمثقفين، انتهازية أحزاب المعارضة التقليدية،... وغيرها، أعاقت تحولاً ديمقراطياً حقيقياً في ظل مأسسةٍ للسلطة، واختزلته في أحسن الأحوال، إلى انتقال سياسي محدود، واستمرت السلطة رهان المتنافسين الذين لا مشروع لهم سوى الفوز بها. في أسوأ الأحوال، حلت الطائفية مكان الأيدولوجيا، والدويلات بدل الدولة، والجماعة بدل الوطن، والمليشيات بدل الأحزاب السياسية.
عكست إخفاقات "الربيع العربي" حالة الاستعصاء التاريخي المزمن، وحجم المعضلات المتراكمة والمتداخلة، لتبدو أشبه بـ "ماتريوشكا" روسية تبتلع كل دمية فيها الأخرى، مع فارق، أن "الماتريوشكا" العربية تتكون من عددٍ قد لا ينتهي من الدمى المعضلة. فهل انفجر التاريخ العربي ليطرد ما تراكم فيه من قيح قروناً؟ ألا يبدو "الانفجار التاريخي" نظرية في التبرير أكثر من كونها نظرية لتفسيرٍ يقتضي منا تحمل مسؤولياتنا التاريخية؟ أليست تسليماً بفشلنا في رهان المجتمع الدولة، واستسلاماً لرهانٍ على تاريخٍ ما انفكّ يسير خبط عشواء، وبقي أصحابه على الهامش، من دون مشاريع في الاقتصاد والسياسة والفلسفة؟
منذ سقوط غرناطة، لم نكفّ بحثاً عن مناف نطلق منها زفرتنا الأخيرة. فلم الرهان على عون تاريخ لم نجعل منه سيرورة إدراك ذواتنا، تسمح لنا بإنتاج هوية ثقافية وطنية تحت ظلال "الدولة"، بل تركناه لهوياتٍ ترتكز على الذات، وتعرّف نفسها من خلال دورها في مواجهة الآخر؟