"في العمق".. ليس مجرد برنامج
بكلماتٍ موجزة، بدت وكأنها عابرة، على الرغم من إيحاءاتها الوجدانية الواضحة، بالصوت والصورة والإيماءة والنظرة والحدس، ودّع علي الظفيري، ليل الإثنين الماضي، متابعي برنامجه الأسبوعي الشهير "في العمق"، منهياً بذلك حقبة تلفزيونية استمرت نحو سبع سنوات، كانت عاصفةً بأحداثٍ عربية، انعكست على البرنامج، ولوّنته بلونه الخاص من بين برامج قناة الجزيرة، بل والقنوات الأخرى أيضاً.
لا أريد أن تبدو هذه المقالة مرثيةً مستحقةً لبرنامجٍ، أعلن مقدمه أنه انتهى، أخيراً، بقدر ما أريدها معلقة مديح مستحق لبرنامج لن يموت، ذلك أن "في العمق" لم يكن برنامجاً تلفزيونياً وحسب، لينتهي بمجرد بلوغ حلقته الأخيرة، فقد بدأ البرنامج قبيل عاصفة الربيع العربي بإعداد مميز في تنوع الموضوعات واختيار الضيوف وأسلوب طرح الأسئلة وإدارة الحوارات، ما جعل نجم بطله الأول، علي الظفيري، يلمع بسرعة في فضاء الإعلام العربي في تلك المرحلة المفصلية.
ومع تصاعد الثورات، على هامش النقل التلفزيوني المباشر لقناة الجزيرة أولاً، ثم بقية الفضائيات العربية الأخرى، بنسب تتفاوت وحماستها لذلك الربيع المستعر، تصاعد إيقاع البرنامج تدريجياً، وأسبوعاً بعد أسبوع، ليصير، في مرحلته الثانية، إحدى أهم المرايا التي انعكست على شاشتها صورة الشباب التونسي والمصري والليبي واليمني، في ثوراته الكبرى ضد أنظمة الحكم وطغيانها المباشر. ومع كل قضيةٍ جديدةٍ من قضايا الثورات الاستراتيجية التي كان يبسطها الظفيري على مائدة النقاش، مع ضيوف برنامجه الرشيق، كانت هوية البرنامج تتبلور أكثر فأكثر انحيازاً لتلك الثورات، وهموم أصحابها، وتدليلاً على أهميتها في المكان والزمان، وتعضيداً لما آلت إليه من نتائج، في مراحلها الأولى على الأقل، ثم تشريحاً وتفسيراً لتداعياتها اللاحقة، على غير ما بدأت عليه أطروحات البرنامج في بداياته ومبادئه. على أن الهدوء الذي أضفاه الظفيري على أجواء برنامجه، ذي الطبيعة الجدية الفارقة، مقارنة مع برامج سياسية أخرى اشتهرت بصخبها وبهرجتها وحواراتها الفاقعة، لم يكن ليسحب منه حماسة المتابعة من مشاهدين يمثلون شرائح ثقافية واجتماعية وسياسية وجغرافية مختلفة ومتباينة. ولعل هذا من أهم مميزات "في العمق"، حيث الحفر الصبور في عمق القضايا، تجذيراً لها تاريخياً ونحتاً لما تراكم على أكتافها من ادعاءات سياسية وإعلامية، تجد فرصة الظهور غالباً عبر شاشات البرامج التلفزيونية، لتختفي بعد انتهاء الحلقة غالباً.
وهذه الميزة التي استمدها البرنامج من ثقافة مقدمه العالية، ورصانته وتوفره على فريق إعداد مميز، بالإضافة إلى أدبه الجم مع ضيوفه، على الرغم من المساحات الواسعة فكريا وسياسيا التي تفصله عن كثيرين منهم، هي تحديداً ما سيفتقده متابعوه اعتبارا من الآن. وعلى الرغم مما سيتركه هذا الفقد من أسىً في قلوبهم، إلا أنه سيكون أسىً عابراً، بانتظار برنامج جديد من علي الظفيري وحده، أو مع فريق عمله، في "الجزيرة" أو غيرها. أما الأسى الحقيقي المتجاوز قيمة البرنامج ومقدّمه وفريقه وضيوفه، ففي أنه كان المعادل التلفزيوني الرهيف لربيع الثورات العربية، في سيرورته منذ البداية، متماوجاً معه في كل التحولات التي ألمت بذلك الربيع. وبالتالي، لا بد أن تمثل نهايته أخيراً دلالةً على نهاية السيرورة الربيعية العاصفة. وفي هذا الأسى الدلالي من الثقل على النفس ما لا يستطيع كثيرون منا، نحن متابعي البرنامج منذ حلقته الأولى، ومتابعي الربيع منذ موجته الثورية الأولى، تحمله إلا على سبيل الأمل. والحمد لله على أية حال، فالأمل عادة هو الوقود الذي لا ينضب لطموح الأرواح الحالمة بثوراتٍ تحفر في العمق، وبلا توقف.