"عيش سكر وطن".. أصالة تبكي الحياة في سورية

12 سبتمبر 2016
وصف المأساة السورية من زاوية تصنع التجاهل (العربي الجديد)
+ الخط -

عائلة عربية بسيطة مثل ملايين العائلات العربية. زوج وزوجة مهمومان بمعاشهما ومستقبل أطفالهما. لكنهما أيضاً يتابعان ما يجري من حولهما، وإن كانا مثل الملايين لا يملكان إلا التعاطف.

يسأل زوجته عبر الهاتف إن كانت تتابع ما يجري في سورية؟ فترد قائلة إنها ستهتم بشؤون أطفاله ومنزله، وتطلب منه أن يحضر معه "عيش، وكيس سكر، وجبنة"، وألا يتأخر في العودة إلى المنزل.

تفاجئه ردودها التي تبدو منها حالة من اللامبالاة بأهمية ما يقوله، وتركيزها على شؤونها الشخصية دون اهتمام ببلاد "تموت عشان الكل قال نفسي".

تواصل الزوجة التجول في بيتها الذي تكشف لنا الصورة بهدوء كم هو بسيط؛ محاولة إنجاز بقية مهامها المنزلية، ثم تفاجئه مجددا: "حبيبي خلاص العيد قرب. بأشيل كام جنيه على جنب. بلاش كالعادة تتهرب. وتقولي إن وضعك صعب".

ويبدو الحديث عن العيد في أغنية أصالة الأخيرة لافتا، وخصوصاً أنه تم طرحها في العيد، وهي خطة ترويجية ذكية لا شك أن طارق العريان مسؤول عنها، وهو الذي عرف عنه مهارة في الترويج لأعماله.

يعاود الزوج استنكار محاولات زوجته التملص من مشاركته الحديث عن ما يجري في سورية، "مين جاب بس سيرة العيد. وليه مش حاسة بالموضوع؟ بلد بتموت عشان الكل مش حاسس".

لن تستوقفك كثيرا رمزية أن مكان التصوير منزل مصري، أو حتى استخدام المفردات المصرية مثل "العيش" الذي يسمي المصريون به الخبر، أو العملة المصرية، وغيرها، فمؤلف الأغنية التي تتجاوز مدتها الحقيقية الدقيقتين بقليل هو المصري محمود طلعت.

وتذكرنا الأغنية الجديدة بتاريخ من الأغنيات الحوارية المصرية الرائعة، والتي برع فيها كتاب أبرزهم حسين السيد، ورغم أن أصالة هي صاحبة الأغنية، والمطرب المصري أحمد فهمي ضيف شرف فيها، لكن اختيار طريقة الديالوغ الحواري لتقديم الفكرة كانت الأنسب لتجسيد الحالة.
وكما برع الكاتب في كتابة الحالة، برع طارق العريان، زوج أصالة، في تصويرها، حيث قدم لنا فيلما قصيرا (185 ثانية) معبرا عن أزمات تعيشها ملايين الأسر العربية، بين محاولة مواصلة الحياة في ظروف اقتصادية واجتماعية صعبة، ومحاولة التعاطي مع واقع عربي مأساوي، تعد سورية جرح رئيسي فيه.

مع تكرار الضغط عليها تخرج عن هدوئها، لتنفجر كل الهموم المكبوتة داخلها، وبالتزامن مع تصاعد حدة الموسيقى في اللحن الذي صاغه إيهاب عبد الواحد وتولى توزيعه موسيقيا نادر حمدي، تتصاعد نبرة صوتها لتعلن أنها تتصنع تجاهل ما يجري "ما أنا من كتر أوجاعي. باخاف أوصف مشاعري لحد (...) وقلبي مات على فكرة. لكنه مصر يفضل حي".

يتحول اللحن من الهدوء الحزين الذي بدأت به الأغنية إلى ما يشبه موسيقى نشرات الأخبار، وهي حالة مناسبة تماما لحالة الغليان التي تعبر عنها الكلمات، والتي تصف مشاعر أغلب العرب تجاه الأوضاع في سورية، بل والعراق واليمن. وفلسطين.

"وهو يا سورية دا الموضوع. وطن بيموت عشان الكل. مش سامع. مش فاهم. مش حاسس. عشان الكل قال نفسي"، تصل الكلمات بنا إلى خلاصة القصة، فلا أحد يهتم بالضحايا الذين يسقطون يوميا على مدار أكثر من خمس سنوات، هؤلاء الذين باتوا وقودا لحرب مستعرة لأن أمراء الحرب يريدون أن تستمر.

ولا يمكن في الحديث عن الأغنية تجاهل حالة التمازج بين الشعوب العربية، بطلة الأغنية أصالة سورية وزوجها مخرج الأغنية طارق العريان فلسطيني، وشريكها في الغناء أحمد فهمي مصري، وكذا المؤلف والملحن والموزع، وبينما لم تمنحنا الأغنية أي مؤشر على إمكانية أن يكون الزوج مصريا والزوجة سورية، إلا أن استخدام الغربة في الحوار معبر، وربما كان مؤشرا على ذلك.
جزء من المأساة السورية يتمثل في النزوح واللجوء. ملايين السوريين خرجوا من بلادهم إلى بلاد مختلفة بسبب الأوضاع القائمة. ما يجعل من تجاهل ذلك خطيئة، ولحسن الحظ أن صناع الأغنية انتبهوا إلى ذلك. "فيه ناس الغربة كاسراها. وناس الغربة كارهاها. وناس مضطرة فبتبعد. وشايلة بلدها جواها".

يمكن اعتبار "الكوبليه" نموذجا حقيقيا لما يعيشه ملايين العرب اللاجئين والنازحين والمطاردين في أنحاء الكون، وليس السوريون فقط. وإن كان وجوده داخل النص الذي يصور المأساة يجعله يبدو هامشيا. إلا أن حديث الغربة لافت ولا يمكن تجاهله.

لا تبشر الأغنية بتغير الوضع، لكنها فقط تعيد التذكير بالمأساة الماثلة. الكارثة ليست في الحرب الدائرة فقط، وإنما في لجوء الأخرين ممن يتابعون فصولها إلى تجاهلها، أو بالأحرى تصنع التجاهل. تقول لزوجها بعد فاصل من النحيب: "فهمت حبيبي؟"، فيرد مستسلما: "فهمت خلاص. هاجيب العيش والسكر. ومش هاتأخر".

الخلاصة وفق صناع الأغنية مزعجة، لكنها واقعية، كلنا تزعجه الأحداث الدامية التي تجري من حولنا، بعضنا يشتبك معها بشكل أو بآخر، لكن معظمنا يتصنع تجاهلها ليواصل ممارسة حياته اليومية.




لا يمكننا هنا أن نتجاهل السياسة، فأصالة صاحبة الأغنية معارضة للنظام السوري الذي يواصل الحرب ضد شعبه، ومخرجها طارق العريان فلسطيني الأصل عاش عمره كله تقريبا في مصر، لكن يظل من الجيد أن حالة التشنج القائمة لم تصب صناع الأغنية، ولم يظهر انحيازهم فيها، وربما لذلك أسباب كثيرة بينها أنهم يعيشون في مصر أو يحاولون عدم استفزاز النظام المصري.
ويمكن القول إن رسالة الأغنية الأساسية هي التنبيه إلى ما بات يتكرر على نطاق واسع من ضرورة وقف القتل أيا كان ما يخلفه ذلك من أوضاع سياسية، حتى لو كان بقاء النظام. لكن ذلك تم بأسلوب راق دون التورط في إعلان ذلك أو الترويج له أو حتى مهاجمته. 

وهنا لا بد من الإشارة إلى نموذج فج في التورط والانحياز قدمه المطرب المصري هاني شاكر قبل بضعة أشهر في أغنية "رمضان كريم يا حلب"، والتي تباكى فيها على المدينة المنكوبة برسالة مفادها "متقولش مين السبب. أو مين بيظلم" في تجاهل فج للمسؤولية عن القتل.


المساهمون