"شعب المواطنين".. أي دور في تونس؟
وفي الذكرى الرابعة للثورة، دعا المرزوقي كل المتعاطفين مع مبادرته "إلى الشروع في تنظيم سلسلة من اللقاءات القطاعية والمحلية والجهوية، لتحديد أهداف هذه المبادرة التي أطلقها عقب الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ووضع الأطر المنسّقة لمختلف تعبيرات هذا الحراك، وتحديد أولويات نشاطاته، والعمل على تجسيمها على أرض الواقع"، وليعقبها في 28 يناير/كانون الأول الماضي، ظهور ميثاق حراك شعب المواطنين، والذي تضمن إشارات إلى طبيعة هذا المكون السياسي الجديد، بوصفه "إطارا مرنا ومتماسكا يؤلف بين السياسي والمجتمعي والثقافي بروح جديدة، تقطع مع التنظيمات الهرمية والمنغلقة على نفسها".
وبانعقاد المؤتمر التحضيري للحراك في 25 إبريل/نيسان، وإصداره لوائحه الثلاث (العامة والتنمية الاجتماعية والاقتصادية واللائحة الثقافية والتربوية) يكون السياق العام لحراك شعب المواطنين قد بدأ بالتشكل. وبقدر اتضاح الصورة، بعد هذا المؤتمر، من خلال الخطاب المنهجي الذي ألقاه المرزوقي وما ورد في اللوائح، بقدر ما تشكلت ظلال كثيرة حول سمة هذا المشروع السياسي وأفقه المستقبلي. تنظيمياً، وبعيدا عن الجانب النظري الذي يؤكد به الحراك مجاوزته للطابع الحزبي التقليدي، وتأكيده على ما وصفه القيادي في الحراك، عدنان المنصر، أن "الحراك فضاؤه غير فضاء الأحزاب هو أوسع من حزب، ولا يجب أن ينظر إليه على أساس أنه خصم سياسي" (حوار مع جريدة الصباح في 25 إبريل/نيسان 2015). وفي الوقت نفسه، يؤكد القيادي نفسه لـ "العربي الجديد" أن هذا الهيكل السياسي "يعمل على خوض الانتخابات البلدية المقبلة"، وهو أمر سيجعله بكل تأكيد خصماً لباقي الأحزاب، وسيفرض عليه أيضا وضع هيكل تنظيمي من أجل اختيار المرشحين ووضع البرامج، الأمر الذي يطرح أكثر من إشكال بشأن طبيعة علاقته بالأحزاب المرتبطة به.
وإذا كانت أحزاب صغيرة أعلنت من قبل انضواءها تحت لافتة الحراك قد عادت وأعلنت انسحابها منه، مبررة ذلك "باستمرار الغموض في طبيعة هذه المبادرة وأفقها السياسي خاصة"، و"عدم نضج بعض الأطراف المشاركة في هذا الحوار، واستمرارها في تكرار أخطائها السابقة" (بيان حزب الإصلاح والتنمية، حركة وفاء، الحركة الوطنية للعدالة والتنمية، جبهة 17 ديسمبر للتنمية، الصادر بتاريخ 12 /03 /2015)، وهو انسحاب قلل من أهميته قياديو الحراك، حيث صرح عدنان المنصر "لا أظن شخصياً أن انسحاب هؤلاء سيكون خسارة كبيرة للحراك، لأن الحراك يحتاج إلى وجوه جديدة، ولا يحتاج إلى أن يدخله أشخاص بأهداف حزبية" (حوار مع العربي الجديد في 25 إبريل/نيسان 2015)، غير أن المشكل الحقيقي لن يتعلق بانسحاب ممثلي هذه الأحزاب، بقدر ما يتعلق بتحديد طبيعة العلاقة بين حراك شعب المواطنين بحزب المؤتمر من أجل الجمهورية (حزب المرزوقي) الذي أعلن تأييده مبادرة الحراك وانخراطه فيها بفعالية، ولكن بقاء هيكل الحزب ضمن هيكل أوسع قد يطرح جملة من الإشكالات بشأن الأولويات في القيادة وطبيعة توزيع المسؤوليات التي ستتداخل بين الكيانين اللذين تجمعهما تقريباً أهداف مشتركة وقيادة تأسيسية تاريخية واحدة، ونعني بها المنصف المرزوقي.
وإذا كان حراك شعب المواطنين يطرح نفسه بديلاً أوسع عن النشاط التقليدي للأحزاب السياسية، باعتباره يركز على الأبعاد الثقافية والتنموية، ويجعلها متساوية مع ما هو سياسي، وهو أمر معلن في أدبيات الحراك ولوائحه، غير أن تفعيل هكذا مسارات متوازية في غياب مؤسسات واضحة وقوية قد يجعل الأمور أقرب إلى التمنيات والشعارات الخطابية، أكثر مما هي برامج فعلية، ستجد طريقها إلى التنفيذ والتفعيل.
وإذا كان النموذج الذي يحاول حراك شعب المواطنين تقديمه يسعى إلى مجاوزة الرؤية التقليدية، فإن للنشاط السياسي أصوله ومنطقه الداخلي الذي لا يمكن مجاوزته، بمعنى أن أي كيان سياسي، مهما كان اسمه، يسعى في النهاية إلى الوصول إلى الحكم وتنفيذ برامجه، وهو أمر لا ينفيه قادة الحراك، غير أن الأهم هو كيف يمكن لهذا الكيان السياسي الجديد أن يتحول إلى رقم سياسي فعلي، قادر على اجتذاب القواعد الشعبية، وهو ما يراهن على إخراج الشباب من سلبيته السياسية، وتحفيزه على المشاركة في الشأن العام. وربما كان من أهم نقاط قوة حراك شعب المواطنين أنه ما زال يدافع عن قيم الثورة ويتبناها في سياق عام، أصبحت تغلب عليه التوافقات والمصالحات بين النمط السياسي القديم والوافدين الجدد على الحكم ما بعد الثورة. وعلى أهمية ما أعلنه المرزوقي في خطابه من أن "البلاد تتخبّط في ثلاث أزمات مترابطة، سياسية واقتصادية وثقافية أخلاقية، ولا بدّ من التعامل معها منظومة واحدة، أو مشكلاً واحداً له حلول ومداخل متكاملة، تتمثل في المدخل السياسي بمفهومه الحزبي، والمدخل الاقتصادي والمدخل الثقافي الأخلاقي"، فإن مثالية الفكرة لا تغني عن واقعية الأداء في مواجهة مشهد سياسي وإعلامي قائم على تجاذبات واضحة بين قوى كبرى، يمثلها من جهة التيار الإسلامي (تتزعمه حركة النهضة) والتيار الدستوري بحلفائه وامتداداته داخل الدولة العميقة، وهي ثنائية كشفت عنها الانتخابات البرلمانية، أخيراً، وإن اجتراح بديل ثالث يجمع بين مفاهيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والطهر الثوري يحتاج إلى أكثر من الشعارات أو منطق الزعامة، وإنما إلى قدر كبير من الحصافة السياسية والحساب الذكي للتوازنات، في ظل توتر خفي بين حركة النهضة وحراك شعب المواطنين، خصوصاً بعد إعلان قيادات هذا الأخير عن تضررها من التحالف مع "النهضة" في أثناء فترة حكم الترويكا، بل والتأكيد على دور غير معلن لقيادات "النهضة" في وصول الباجي قائد السبسي إلى الرئاسة (عدنان المنصر لـ "لعربي الجديد" في 25 إبريل/نيسان 2015).
وقد يطرح هذا البرود في العلاقة مع "النهضة" على حراك شعب المواطنين مشكل الصراع مع القوى الحزبية الأخرى التي يعلن بعضها، بوضوح، عداءه لهذا المكون السياسي، فبالإضافة إلى "نداء تونس"، وهو خصم طبيعي للحراك، فإن بعض قيادات اليسار، وخصوصاً في الجبهة الشعبية، أبدت روحا عدائية وانتقادا حادا للمشروع السياسي الذي يتزعمه المرزوقي إلى الحد الذي وصل فيه زياد الأخضر، القيادي في الجبهة، إلى القول "إنّ هذا التجمّع الذي تشكّل حول شخصيّة المنصف المرزوقي في ذلك الحين يمكن أن يتحوّل إلى حزب خطير على أمن تونس واستقرارها ووحدتها. ولذلك، طرحنا التصدّي له. واليوم، نرى أنّ هذا الحزب الذي سيتم الإعلان عنه، حراك شعب المواطنين، يجسّد هذا التّوجّه، وهو يلتقي في جزء كبير منه مع توجّهاتٍ أصبحت واضحة في الوطن العربي ومنطقتنا، وهي توجّهات لا تخدم إلاّ تفتيت المنطقة وإدخالها في اقتتال أهلي، لن يستفيد منه إلاّ أعداء الأمّة العربية، وأعداء التقدّم والديمقراطية" (صحيفة صوت الشعب، 23 /02 /2015)، وهو موقف ينم عن توجس قوى اليسار من قدرة الحراك على استقطاب العناصر الثورية والقوى المنحازة إلى فكرة الديمقراطية الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة، وهي شعارات يعتبرها اليسار حكراً عليه، وجزءاً من الرأسمال الرمزي الذي يخاطب من خلاله الجماهير الشعبية.
وبالإجمال، حراك شعب المواطنين، وعلى رغم أهمية الطرح السياسي الذي يقدمه، بوصفه مبادرة تطمح إلى خلق دينامية حزبية حقيقية في البلاد، والخروج من منطق الاستقطاب الثنائي في العملية السياسية، ومحاولته تجميع القوى الثورية، والانتصار لبدائل الديمقراطية الاجتماعية، يظل مرتهنا بجملة من العوامل الموضوعية، لعل أبرزها مدى قدرته على تحديد هويته التنظيمية بوضوح، بعيداً عن التعريفات العامة، وتشكيل قوة متماسكة هيكلياً، وتحويل برامجه النظرية إلى ممارسة فعلية، تجد طريقها إلى التأثير في الشارع، وتغيير التوازنات والمعادلات في ظل مشهد سياسي عام، قائم على توازن الضعف بين أحزاب معارضة فاقدة للنجاعة والفعالية وحكومة ضعيفة تعصف بها ريح التحالفات الهشة والصراعات الداخلية لحزب نداء تونس الذي يشكل عمودها الفقري، ويظل المشهد الحزبي في تونس ما بعد الثورة قابلا لشتى التغيرات والتطورات، بانتظار اكتمال المسار الديمقراطي واستقرار الصورة السياسية بشكلها شبه النهائي.