"شارلي إيبدو".. السخرية والموت

20 يناير 2015

من تظاهرة ضد الاعتداء على شارلي إيبدو في باريس(13يناير/2015/أ.ف.ب)

+ الخط -

السخرية والفكاهة يؤديان إلى الضحك. هذه النشوة المختفية في أعماق الإنسان، التي تبرهن على كيانه الوجودي، لأنه، بهذا الضحك، يجتاز المألوف، ويخرق القواعد المتعارف عليها، ويقلب المنطق الذي يجمّد الأحداث. وإذا ما خرج هذا الضحك إلى الفضاء العام، تحوّل إلى سلاح فتاك، إلا أن القدر شاء أن ينقلب الضحك إلى تراجيديا في مكاتب مجلة "شارلي إيبدو" التي كانت تدعو الفرنسيين إلى الضحك، وهم الذين لا يشبهون الإيطاليين أو المصريين في استلام النكتة والدعاية، وقد قال الروائي فيرناندو سيلين: "لا أستطيع أن أكتب رواية بمنطق الفرنسيين الجامد". لذلك، وضع حدوداً للرواية ما قبله وما بعده. وهكذا سقط الرسامون: كابو، وشارب، وأونوريه، وتينيوس، وولينسكي، وغيرهم من الصحافيين ضحية دعابتهم السّمجة. هل كان الرسامون يفكرون بالموت وهم يخطون رسوماتهم الكاريكاتيرية على صفحات "شارلي إيبدو"، الأسبوعية الساخرة التي كانت وراء الصحف الرصينة في الاستحواذ على اهتمام القارئ الفرنسي؟ ظلت السخرية التي أطلقتها المجلة الأسبوعية حبيسة الأدراج، إلى أن وجدت ما يثير اهتمام الجمهور الفرنسي: رسوماً للنبي محمد، بمزيج من الانتقام والجهل، إلى أن وقعت ضحية الطفولية اليسارية، واستنجدت بالرسوم الدانماركية، واستنسختها، وأعادت نشرها لتقدم طبقاً جاهزاً للضحك الجاهز إلى الجمهور المتجهّم.

كان ممكناً أن يبدو ما نشرته "شارلي إيبدو" رائعاً لو أنها لم تلجأ إلى الخطاب المزدوج، بخيال فقير من السخرية والهزء، وشتّان ما بينهما، في تصوير النبي محمد، لمعرفتها أن الإسلام لا يزال الدين الوحيد من بين الأديان السماوية التوحيدية القادر على التجييش وتعبئة الجماهير وإثارة الأحاسيس والمشاعر. ولعل تكرار رسوم النبي محمد في العدد التالي بعد حادث الاعتداء الاجرامي على مكاتبها، جاء لصفحاتها الصفراء بالترويج (بيعت من المجلة 3 ملايين نسخة ونفدت منذ الصباح)، لأن الجريدة لم تجد موضوعاً رائجاً سوى اللعب ثانية بالأيقونة العزيزة على قلوب المسلمين. أما وجه الإساءة فهو الشكل الكاريكاتيري النمطي القبيح، والمتوارث من العهود الاستعمارية والمناهج المدرسية عن العربي والمسلم. ومحزن أن يبادر المثقفون العرب إلى تقديم التماسات اعتذارية وتبريرية، تثير الشفقة حقاً، وكأنهم مسؤولون عن هذه الجريمة، الفرنسية بامتياز وغير القادمة من الخارج، على الرغم من تصويرها هكذا، من دون أن يبصروا الجرائم الأخرى، لأنهم، أي بعضهم، كان، في الغالب، يفتقر إلى الروح الجدلية الشمولية، ولجأوا إلى لغة الشجب والإدانة على طريقة جامعة الدول العربية المحنّطة، متحدثين بالدرجة الأولية البدائية للغة، بل ذهب بعضهم إلى التبرؤ من الإسلام... دعماً لـ "الإسلاموفوبيا". وعلى غير هذا الحال، جاءت المقابلة التلفزيونية مع الشاعر ورئيس الوزراء الفرنسي الأسبق، دومينيك دو فيلبان، وهو الذي يتمتع برؤية جدلية بدت في قوله إن الغرب هو الذي أوجد داعش، ووصف التنظيم المذكور بالطفل الوحشي لتقلب السياسة الغربية وغطرستها، مؤكداً أن "داعش يكشف الإرهاب الحقيقي ويبرئ المسلمين من هذه الأعمال الإجرامية"... ، في إشارات إلى ما يحدث في سورية والعراق وليبيا واليمن. ونقول: لم يقف أحد مع اليمن، عندما قتلت الطائرات الأميركية بدون طيار 250 بريئاً من دون أية إدانة دولية.

تدعي "شارلي إيبدو" العتيدة أنها قادرة على انتقاد أي شيء. لكن، هل تستطيع أن تشكك بالمحرقة اليهودية تحت سلاح قانون غيسو الذي حوكم بموجبه الفيلسوف الراحل، روجيه غارودي، ودفع نحو 300 ألف فرنك فرنسي غرامة على قوله إن اليهود يستخدمون المحرقة رأسمالاً استثمارياً لهم في العالم، واضطهاد الشعوب الأخرى.

لم تنته البلبلة التي أثارتها واقعة الجريدة الأسبوعية، بل أشاعت موجة من الحيرة والانقسام في المدارس الفرنسية، فثمة من لم يقفوا فيها دقيقة صمت، وآخرون لم يرفعوا شعار (أنا شارلي)، وثمة من قال من التلاميذ (أنا كواشي) أو (أنا كوليبالي). ولم تكن الجريدة تلقى الدعم الحكومي اللازم بسبب كوارثها الاقتصادية، ولكن، بعد أن مات رساموها وصحافيوها، أنقذتها الجريمة من الافلاس وأطلقت شهرتها الباهتة، لأنها وجدت المنجم والكنز والتجارة.

هل تحوّلت السجون الفرنسية إلى مصانع تفريخ المتطرفين الإسلاميين؟ كما خرّج سجن بوكا (أشارت إلى ذلك رواية كاتب هذه السطور، "مجانين بوكا") قائد التطرف أبو بكر البغدادي وجماعته. التقى شريف كواشي وأحمد كوليبالي في سجن فلوري ميروجي، جنوب باريس بجمال بيغال الإسلامي الفرنسي المتطرف، ولا يزال بين جدران هذا السجن 152 مسجوناً على ذمة التحقيق في قضايا إرهاب. هكذا يثير الخطاب الساخر شهية القاتل، فما عاد الرأي يقابل بالرأي، والسخرية بالاحتجاج، كما كان أيام زمان، ولكن السخرية بالموت.

تعطي صحف لنفسها الحق في السخرية من الأديان، وهناك بشر يعطون أنفسهم الحق في أن يردوا بالطريقة نفسها، لكن التطرف الذي يضفي صبغة الإسلام عليه يعود إلى البربرية والتوحش، هذا الذي تعلم أصوله من الغرب أساساً. رفضت الحكومات الفرنسية المتعاقبة إنشاء الشرطة المجتمعية، وفضلت الشرطة القمعية، ولم تعمل على إنجاز مشروع باريس الكبرى الذي يقضي على الفروق بين قلب باريس والضواحي، على الرغم من إلحاح علماء الاجتماع.

تجد مجزرة "شارلي إيبدو" من يؤيدها بين مهاجرين مسلمين للأسف الشديد، لم يعرفوا الانفتاح أبداً، ويعيشون في "غيتوات" وأحياء منغلقة على نفسها، ويتسلمون أفكاراً جاهزة عن الإسلام الحماسي، وليس الإسلام المعرفي. واليوم، ها نحن نعيش نوعاً من إرهاب آخر، أي لا أحد يستطيع أن يكون مضاداً ويرفع شعار (أنا لست شارلي) لأن الشعار المقرر هو (أنا شارلي). نتنياهو كرر بلكنته العبرية (أنا شارلي)، ولم تسخر منه الجريدة الأسبوعية، وهو يحيي الجماهير مثلما يحييها صاحب الديار الفرنسية، فرانسوا هولاند، ولم تتحول جريمته في قتل 500 طفل بريء في غزة صورة تتصدر أولى صفحات الجريدة الشهيرة، بل أصبح هو "بطلاً" ضد الإرهاب.

3442CCAB-1913-4DB8-8A09-49D66768B42E
شاكر نوري

إعلامي وروائي ومترجم عراقي، يعمل في الصحافة منذ 1970. له ثماني روايات. يحمل البكالوريوس والماجستير في الأدب الأنجليزي والدكتوراه في السينما والمسرح من السوربون، أقام في باريس 27 عاماً. نال جائزة ابن بطوطة لأدب اليوميات.