مشرحة بغداد والحاجة إلى عيد الموتى

06 أكتوبر 2014

نظارات أحد ضحايا تفجير إرهابي في بغداد (31أكتوبر/2010/أ.ف.ب)

+ الخط -

لم تفلت مشرحة بغداد من عمل روائي كابوسي، كتبه الروائي العراقي الصديق برهان الشاوي، ولذلك دلالاته، وخصوصاً بعد عودة مشرحة بغداد إلى العمل بكل طاقتها، بعد أن تعطلت فترة وجيزة، فقد شهد أغسطس/آب وحده استقبالها 1265 مدنياً قضوا نتيجة العنف الطائفي. وتستوعب كل من ثلاجات المشرحة التسع ما بين 70 و80 جثة، بدلاً من طاقتها الأساسية التي تقدر بـ16 جثة.

نحن، الآن، في أمس الحاجة إلى استحداث يوم خاص بعيد الموتى، لأننا البلد الذي ينتج الموت على مدار الأزمنة، ولدينا أكبر المقابر في العالم، هي "وادي السلام"، فهل من المعقول أن لا نحتفل بعيد الموتى؟ على الحكومة العراقية أن تلغي الاحتفالات كلها، وتخصص يوماً لهذا العيد الذي ينغمس فيه العراقيون بكل وجدانية وكأنهم خالدون. وأمة ليس فيها قديسون يجب أن تسعى إلى توليدهم بأسرع ما يمكن، وإلا ظلت عاقرة. ولأننا لا نعرف الموتى، وأحيانا نحرق وجوههم في انفجار العبوات والمفخخات، فإننا لا نحفل بالجسد، أو بالجثة، ولا نبقيها إلى جوارنا فترة، لنقيم لها الطقوس والشعائر، بل نسارع إلى دفنها ونواريها التراب، ونخشى النظر إليها كثيراً، لأنها قد تذكرنا بجرائم الجلادين.

ولأننا لا نحفل بالموت، لا نحفل بالحياة، لأن هذه الضفة لا بد أن تؤدي إلى الضفة الأخرى. ولم نفكر، يوماً، ببناء جسر بين الموتى والأحياء، وهذا هو البؤس الذي نعيش فيه. أعيادنا فقيرة وهزيلة، ولا تشجعنا إلا على استخراج ما في دواخلنا من آهات وآلام. لم نعرف كيف نؤسس لطقوسنا، على الرغم من ثراء أسلافنا في هذا المجال. وهكذا، نجد العراقي يفتح دواخله نحو الخارج، لأنه يخاف من التأمل، لأننا لا يمكن أن نتأمل ونصرخ في الوقت نفسه. العراقي لا ينشد المتعة، خشية أن يجذب الضحك التطيّر وسوء الطالع. لذا، عندما يضحك العراقي كثيراً يتدارك نفسه، ويتوقف عن الضحك ويتعوذ من الشيطان الرجيم. العراقي لا يعرف الصمت أو السّرية، فقد اعتاد على الإعلان عن ذاته للغريب، منذ أول وهلة، متوهماً أن يجد من يتعاطف مع آلامه.

كان العيد ولا يزال يقدم العطايا والقرابين، وهذا ما يشجع المحتفلين به على أن ينهضوا في الفجر، من دون أن يتذوقوا طعم النوم الهنيء. وهل من المصادفة أن تتحول القرابين إلى قربان واحد، يقدمونه على لائحة القوانين والتشريعات والأصول. وهكذا يصبح يوم الاحتلال في شريعة السياسيين العراقيين عيداً وطنياً، يجب الاحتفال به. وغالباً ما يكون العيد تمرداً، لكنه يصبح اليوم هزيمة وخنوعاً وعزلة. فإذا لم يتمرد العراقي في يوم العيد، متى يتمرد؟

منذ قديم الزمان، كان الغناء والنواح يتوحدان في أعيادنا. كم من الأعياد ستمّر على العراقيين وهم مهددون، منقسمون، خائفون، مضطربون، تلاحقهم لعنة ثوراتهم وانقلاباتهم. عيد بأي حال عدت يا عيد... والعراق يحنّ إلى مارك سايكس الذي رسم حدوده، بالألوان والأحجار، بل ويدافع عنه، ويتعلق بخريطته التي أصبحت جنته الموعودة بعد تهديدات داعش بخرق الحدود.

لا يزال هناك من يكتب عن العراق بالمنطق، فيما أوضاع هذا البلد تستدعي الهذيان واللامنطق، لأن المنطقيين يسعون إلى ترسيخ نتائج الاحتلال، ويضفون لمسة ناعمة على جرائم أميركا التي عادت من جديد، بل يلبسون نظارات ملونة، لكي يروا خارطته بالألوان، بعد أن أصيب ساسته ولاعبوه ومراجعوه بعمى الألوان. ذكر الكاتب الفرنسي، فيرناند سيلين، صاحب رواية "رحلة إلى أقاصي الليل" إنه لا يستطيع كتابة رواية عظيمة بمنطق الفرنسيين الجامد، وإلا أصيب خياله بالتحجر والجمود. وماذا نقول نحن؟ أنا أبكي إذن أنا موجود. أنا ألطم إذن أنا موجود. الغناء على متن طائرات الخطوط الجوية تحوّل إلى نواح ولطم.

بدد العراقيون أحلام أميركا في جلب نموذجهم بالموت، بالأحزمة الناسفة، بفنون التفجيرات: لم تعد المقدسات تعني شيئاً لهم: المراقد، والكنائس، والحانات. ألا يبرهن لنا ذلك أن ما بين التاريخ واللحظة لا يوجد سوى خيط واه قد يبدو من بعيد جسراً هائلاً من عذابات غير محتملة، وجثثاً آدمية متعفنة، وأفكاراً تالفة؟ عيد الموتى، دراما تشاؤمية، ولكنها، تحمل بذور العودة إلى الأرض، إلى التربة، إلى الأنفاق، ولا يزال بعضهم يؤمن بأن أميركا الخلاص الوحيد، ومفردة الخلاص لا تجلب السعد بالضرورة.

لا تزال أرقام الجريمة الأميركية تلقي بظلالها على الواقع، على الرغم من مرور أحد عشر عاماً: مليون ضحية، 2.5 مليون مشرد في بلادهم، و2.5 مليون في الخارج، وخارطة العراق الآن تشهد حرباً أهلية طاحنة، وحرب تحرير حقيقية أجهضتها داعش. وها هو الكاتب الإسباني، فيرناندو أرابال، يصرخ قائلاً "كيف تجرأت أميركا أن تضرب البلد الذي علمّنا القراءة والكتابة؟ّ". إنها العودة إلى البدائية الأولى، كما تفعل إسرائيل في تدمير غزة عشوائياً، وتلقي قنابلها على رؤوس الأطفال الحالمة، من دون أي تأنيب ضمير أو شعور بالذنب، لأنها اعتادت على اغتصاب العالم عبر تاريخها من إبادة الهنود الحمر إلى جرائم فيتنام.

3442CCAB-1913-4DB8-8A09-49D66768B42E
شاكر نوري

إعلامي وروائي ومترجم عراقي، يعمل في الصحافة منذ 1970. له ثماني روايات. يحمل البكالوريوس والماجستير في الأدب الأنجليزي والدكتوراه في السينما والمسرح من السوربون، أقام في باريس 27 عاماً. نال جائزة ابن بطوطة لأدب اليوميات.