إذا قلبنا أشهر الخرائط التي نعرفها، هل يمكننا أن نتعرف عليها بسهولة؟ من خلال التجربة، يبدو ذلك صعباً، وهو ما تجلّى خلال المعرض الجماعي "تلاقي الضفتين" الذي يقام حالياً في مدينة إيركي جنوب فرنسا، ويتواصل حتى 19 من الشهر الجاري، بعد أن كان الجزء الأول منه قد نظّم في سوسة التونسية بداية العام الجاري، وفيه نجد أعمالاً لفنانين من بلدان مختلفة مثل سانغ سوبي أوم من اليابان وكريستينا دياس دي ماغالايس من لوكسمبورغ ولورا سانشيز فيلومينو من البيرو، كما نجد ضمنه أسماء تونسية مثل عبد السلام عياد وفاتن شوبة صخيري وسليمان الكامل وثامر الماجري وآمنة غزيّل وسعاد ماني وهالة لمين ونبيل صوابي ونادية زواري وصاحب "الخريطة" المقلوبة وسام العابد.
في هذا العمل، يعود التشكيلي التونسي إلى طريقة وضع الخرائط في العصور القديمة، حين كانت تصمّم داخل قرص ضمن التصوّر بأن الأرض مبسوطة ونهائية (لهذا الجانب رمزية ذات نزعة نقدية في ثيمة المعرض) كما يقترح العابد على زائر المعرض عدستين بحيث أنه إذا نظر فيهما انقلبت الصورة رأساً على عقب وتبيّن بسهولة خريطة مألوفة لديه: حوض البحر الأبيض المتوسط الذي ينتقل المعرض بين "ضفّتيه".
يشرف على المعرض كل من التشكيليّتين؛ التونسية نجاح زربوط والفرنسية نتالي ريمون. الثانية يمكن اعتبار أن المعرض ذو بعد تكريمي لها باعتبار أن ما يربط بين الفنانين المشاركين هو كون ريمون أشرفت على بحوث أكاديمية لهم، علماً أن فكرة المعرض من أساسها تقوم على اقتراح أعمال لفنانين يجمعون بين صفتي: المبدع والباحث، وهي خاصية لها انعكاسها في المعرض باعتبار أن كل عمل نجد معه قراءة تحليلية وضعها الفنان مظهراً البنية الفكرية لعمله وتطوّرات اشتغاله عليه.
قد لا يكون معرضٌ ما أكثر من محتوياته الفنية التي يقترحها على زائره، غير أن "تلاقي الضفتين" يحمل إلى جانبه عوالم موازية إذا استعرنا هذه العبارة من السرديات. أوّل هذه العوالم مفارقةٌ برزت خلال يوم افتتاحه وهي غياب معظم المشاركين التونسيين. مفارقة تظهر حين نعود إلى عنوان يتحدّث عن تلاقي الضفتين، في حين أن فناني الضفتين لم يلتقوا خلال افتتاحه، لأسباب معروفة متعلقة بتعقيدات إجرائية ومادية مختلفة.
مفارقة أخرى يضيئها المعرض تتمثل في ما كشفته منسّقته نجاح زربوط في حديث إلى "العربي الجديد" وهي تعقيدات تتعلّق بتنقّل الأعمال أيضاً، حيث أنها قامت بمفردها بنقل المشاركات التونسية من بلدها نحو فرنسا من خلال نزع كوادرها ووضعها في حقائبها الخاصة. هذه الوضعية فرضها وجود قانون في تونس يعتبر أن الأعمال الفنية المنجزة هي جزء من التراث الوطني لا يمكن نقلها خارج البلاد إلا من خلال إجراءات تتدخل فيها وزارة الثقافة والمشرفون على الغاليريهات.
تقول الفنانة التونسية بشيء من المزاح: "من حسن الحظ أن ثمة تشدّداً أقل في التفتيش حيال الأعمال الفنية مقارنة مع أغراض أخرى" ضاربة مثال أحد المسافرين معها الذي تفطّن المراقبون بأنه يحمل عدداً زائداً من علب السجائر. لكنها تشير إلى أن هذه الوضعية اعتبرها المشاركون حكاية حافة بالمعرض لها تحدّياتها، حيث تسافر أعمالهم في حقائب "بين ضفّتين".
هذه الوضعية فرضت تغيّرات بين معرضي مدينتي سوسة وإيركي، حيث أن أعمال الفنانين التونسيين المشاركة باتت تحت إكراهات أن تكون في أحجام تناسب حجم الحقائب، ما فرض استبدال بعضها.
بالإضافة إلى ذلك تشير زربوط إلى أن أي معرض حين ينتقل من فضاء إلى آخر يعرف تغيّرات عميقة، فكل مكان تفرض خصائصه تفاعلات جديدة بين الأعمال، خصوصاً أن "غاليري البيرو" الذي عُرضت فيه الأعمال في سوسة كان عبارة عن قاعة فسيحة، فيما توزّعت الأعمال في إيركي بين ثلاث قاعات.