"بلفور": كأن العالم العربي خُلق بسبعة أسطر

02 نوفمبر 2016
(إلى عمّان للتظاهر ضد دولة الاحتلال، تصوير: روجر فيوليت)
+ الخط -

هذا هو العام التاسع والتسعون على وعد بلفور (الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني 1917)، والذي يأتي ليذكّرنا بوقوفنا على بعد عام واحد من مئوية رسالة وزير الخارجية البريطاني؛ التي وعد فيها بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، والذي يبدو اليوم أقرب إلى ثكنة عسكرية منه إلى الوطن. ثكنة تحيط نفسها بحدود دموية، لتحافظ على وجودها. وها هي الجغرافيات من حولها، دامية ومفتتة، يحفر أبناؤها في أراضيها طولًا وعرضًا، بحثًا عن دليل واحد، على أن هذه الجغرافيات، أوطان.

من السخرية بمكان، أن نطرح في يومنا هذا موضوعة رسالة بلفور بأسطرها السبعة، فيما يثبت الراهن العربي بلا جدلٍ، أن الكم الكبير من الدساتير والقوانين التي كُتبت، والتي تضمّ ملايين السطور ربّما، لم تحم المواطن العربي من سلطوياته الحاكمة، ولم تمنحه حقوقًا أو وطنًا، وحين فكر فيهما، اكتشف أن بلفور نسي أن يكتب رسالة، يمنح فيها أنظمتنا العربية ملكية المزارع، وما عليها.

يبدو الزمن في الشرق متوقفًا، أما الاتجاهات، فبلا معنى؛ ذلك أن الحداثة، وتقدّم الإنسان في الزمن، وسيره إلى جهة ما، بوصفه مركز الحداثة والثقافة الجديدتين، لا يتم في الشرق. لعلّ نظرة واحدة على حواجز الاحتلال الإسرائيلي، ستكون كافية لنرى كيف يتم اصطياد الإنسان أحيانًا على تلك الحواجز، لأنه يقوم بأعمال مريبة وخطرة؛ كأن يذهب الأطفال إلى مدارسهم في الصباح، أو تتجه الأمهات إلى السوق.

هكذا، تقوم "إسرائيل"، بعد تسعة وتسعين عامًا، بتقطيع أوصال الحياة، وفصلها بحواجز، مانعة إياها من الوصول إلى الفلسطينيين. في المقابل، يُقتل المواطن العربي في سورية وغيرها، أو يُدفع إلى الهجرة، يتم تجريف بيته ومعالم حياته، كأن تاريخنا محكوم بتنفيذ رسالة بلفور، وتعميمها نموذجاً، لكن لأجل طائفة أخرى "منبوذة" هذه المرة، هي طائفة الأنظمة العربية.

يجعلنا الواقع العربي اليوم ندرك أننا لم نتجاوز بعد عصر المحارق والعذابات، وأن ما استندت إليه أنظمة الحكم العربية طوال سنوات، من مطالبات بتحرير فلسطين ودعم شعبها، كانت مطالبات شكلية؛ إذ إن وضع شعوبها في المحرقة منذ اندلاع الانتفاضات العربية، لا يختلف أبدًا عن الزج بالفلسطينيين في محرقة الطرد واللجوء، وجعلهم منفيي التاريخ الجدد، بعد أن تم جمع اليهود من مختلف أنحاء العالم، والزج بهم في فلسطين.

إن وعد آرثر بلفور، الذي أدى بطبيعة الحال إلى اقتطاع مساحة من جغرافية الشرق، أدى كذلك إلى عملية انزياح وتفكيك جغرافية، وتقسيم للمحيط العربي، لم تتوقف حتى اليوم. تفكيك ساهمت فيه الأنظمة ببراعة في ما بعد، وتتجلى هذه البراعة بالاستمرار لعقود طويلة، برسم طرق التفافية وخلق متاهات، لتضييع وتفكيك أي نمط فكري أو اجتماعي تحرري أو تطوري.

ولأجل هذا، أحالت الأنظمة ملفات الفكر العربي إلى آليات تفكيك دينية وطائفية وعرقية، أُوجدت لتحويل الإنسان العربي إلى وحش، يأكل الورق ولا يقرأه، فيما اكتفت على الصعيد العالمي بالرضوخ لفنون السحر التي تمثلها العلوم السياسية التبريرية، مكتفية بورقة واحدة، يجترها التاريخ، وتظل عصية على وقف التنفيذ، ورقة بلفورية من سبعة أسطر، كأن العالم العربي خلق بسبعة أسطر، لا في سبعة أيام.

بفضل وعد بلفور وما تلاه من قرار للتقسيم عام 1948، فإن وجود "إسرائيل" بنظريتها المأساوية، منع - ربّما -  فكرة قيام دولة سوية في "الشرق الأوسط" إلى الأبد، وليس الأبد بمبالغة، إن كانت أجيال اليوم تهرب إلى القبور، أو تمتطي قوارب مطاطية، وتصل جثثًا إلى شواطئ بعيدة عن جحيم الحرب التي شنّها الاستبداد على الإنسان العربي اليوم.

نقف اليوم على مقربة من مئوية هذا الوعد، الذي لا يمثل ذكرى بأي حال، لأنه ليس استعادة لشيء ذهب؛ فهو وعد بنى واقعًا لا يود الرحيل، واقعًا غير مؤسسٍ على مفهوم إنساني، قاد الدول التي قامت على إثره لتنتهج مفاهيم تحطيمية، تتولى إدارة صراعات وأزمات داخلية لا تنتهي، وتدفع تجاه فلسطين بسيل من قماش شعارات يكفي لبناء أشرعة ملايين السفن، سفن قد تمكّن العربي من حرق وجوده من خلفه، والرحيل من دون النظر إلى الوراء.

يشي الراهن العربي، اليوم، بعملية تجريف واسعة، مستمرة منذ زمن طويل، وبدأت الآن تتّخذ شكلها الدموي، بعد سنوات طويلة من القمع، وشق الطرق الرديئة نحو المستقبل، لا بد أن جثة السيد آرثر بلفور تحللت منذ زمن بعيد، ولا بد أن رائحة الدخان النتنة ما زالت تفوح في الشرق، هذه المنطقة كما يقال، مشتعلة على الدوام، في هوس قيامي لا ينتهي.

وفيما يتحدث المحللون السياسيون عن خسارة فلسطين لوجودها كقضية محورية في الشرق الأوسط، يطرح جيلنا سؤالًا بسيطًا: هل من مكان لوجود الإنسان العربي في هذا الشرق أصلاً؟ في ظل تحويله ضحيةً تنهشها كائنات دينية أو سلطوية. أين هي المعرفة والحقوق التي تتمثل في فلسطين، في ظل قتل الإنسان العربي كل يوم؟ المرء يموت، فتموت معرفته معه، وكذلك تموت معه قضاياه؛ أما وعد بلفور، فما يزال حيًا يرزق.


(كاتب ومترجم من الأردن)

المساهمون