"النكسة" والتطرف الديني اليهودي

18 يونيو 2015
+ الخط -
لا خلاف بين علماء الاجتماع السياسي في الكيان الصهيوني على الدور الكبير للانتصارات العسكرية التي حققتها إسرائيل على الدول العربية، في إيجاد بيئة مناسبة لتنامي التطرف الديني اليهودي. فقد نظرت قطاعات يهودية كثيرة لهذه الانتصارات على أنها تحقيق لنبوءات جاءت بها التوراة والمصادر الدينية، ما ألهب الحماسة الدينية لدى هذه الأوساط. ولا شك أن أهم حرب أثرت في الوعي الجمعي لليهود العلمانيين والمتدينين كانت حرب 1967، عندما تمكّن الجيش الإسرائيلي من الانتصار على الجيوش العربية واحتلال الضفة الغربية والقدس وهضبة الجولان وقطاع غزة وصحراء سيناء التي تساوي مساحتها ثلاثة أضعاف مساحة فلسطين. فقد رأى اليهود في نتيجة الحرب "معجزة إلهية"، وعدّت المرجعيات الدينية، وكذا كبار الحاخامات، نتيجة الحرب بداية لتحقيق "الخلاص" ومقدمة لنزول "المسيح المخلص". وقد عبر عن ذلك الحاخام موشيه ليفنجر، مؤسس الاستيطان اليهودي في الخليل، قائلاً: "كل ما حدث من فعل العناية الإلهية التي شاءت تحرير أجزاء كبيرة من أراضينا". وبعيْد الحرب، أصدر الحاخام مناحيم شير، وهو من كبار مرجعيات المتدينين القوميين، كتابه "بحث خالص لطرق الخلاص ودلائله"، وجاء فيه "حرب عام 67 أعظم حدث في تاريخ الشعب اليهودي، منذ حرب اليهود بقيادة متتياهو الحوشمانئي ضد اليونانيين القدماء، فهذه الحرب انطوت على معجزات كبيرة، لا تشبه المعجزات التي حدثت خلال الحروب الأخيرة، وهذه الحرب تبشر بقرب مجيء المسيح". ساد شعور بحدوث معجزة لدى كل شرائح المجتمع الإسرائيلي، ولم يعد الأمر مقتصراً على المتدينين القوميين.
 
وكانت نتيجة الحرب أهم محفز لانطلاق المشروع الاستيطاني اليهودي في الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان. فبعد الحرب مباشرة، شرع الشباب المتحمس من المتدينين القوميين في تشجيع من المرجعيات الدينية في تنظيم المظاهرات التي تطالب الحكومة الإسرائيلية بإطلاق أيدي اليهود في الأراضي المحتلة. وبفضل حالة الثقة بالنفس التي غذّتها نتائج الحرب، نظم المتدينون القوميون حملات للتوقيع على عرائض، تطالب ببدء الاستيطان في الأراضي المحتلة، وانضمت للتوقيع عليها شخصيات علمانية، في مقدمتها الشاعر موشيه شامير. وحرص الحاخام تسفي كوك، نجل الحاخام أفراهام كوك، وقد تولى قيادة المتدينين القوميين بعد وفاة والده، على التحريض على الاستيطان في هذه الأراضي، حتى لو تطلب الأمر تحدّي الحكومة. ومن أهم إسهامات كوك رفعه شعار "لن تقيموا لن تسكنوا"، أي إنه، في حال لم يبادر المتدينون القوميون إلى إقامة المستوطنات في أرجاء الأراضي العربية المحتلة، لن يتمكنوا من بسط سيطرتهم على "أرض الأجداد وإقامة مملكة إسرائيل"، كما ارتسمت في المصادر الدينية. وجاء في إحدى رسائله إلى تباعه: "لنا هذه الأرض، فلا توجد أرض عربية، هذه أرض إسرائيل، وهي تمثل تراث الآباء الخالد، وهي تابعة لحكم إسرائيل، بجميع حدودها، كما وردت في التوراة". وسرعان ما تحولت شعارات الحاخام كوك إلى مبادئ عمل لأنصاره المتحمسين، فانطلقت حركة "غوش إيمونيم" التي تولت عملياً المسؤولية عن إقامة المستوطنات في جميع أرجاء الضفة الغربية وقطاع غزة. ومن المفارقة أن حرب 67 عززت الفضاء الديني في إسرائيل بشكل جذري، حيث أسهمت في دفع مزيد من العلمانيين نحو التدين. ولعل ما حدث مع الشاب، إيفي إيتام، الذي ولد لعائلة علمانية يجسد مثالاً لتأثير نتائج الحرب على توجهات الشباب اليهودي من الدين. ويقول إيتام الذي أصبح فيما بعد جنرالاً وزعيماً لحزب "المفدال" (كان يمثل التيار الديني القومي)، ووزيراً عنه في حكومات تل أبيب إن نتيجة حرب 67 كان لها بالغ الأثر في تحوله إلى الدين، وعزّزت دافعيته لمواصلة الانخراط في الجهد الحربي، حيث آمن أنه بالتحول للتدين ستقضي إسرائيل على أعدائها. وقد عززت الحرب من مكانة الدين، كعلامة ثقافية قومية مميزة، حتى لقطاعات من العلمانيين. وكما يقول عالم الاجتماع الصهيوني، سامي سموحا، توطدت أركان "ثقافة جديدة" في إسرائيل، تقوم على اتساع دائرة ممارسة العلمانيين الطقوس الدينية والتوجه إلى الكنائس والتعلق بالتراث الديني. ولا تهدف هذه القطاعات من العلمانيين للتعرف فقط على التراث الديني، وإنما رغبت، أيضاً، في بلورة الهوية الثقافية المميزة في شقيها الشخصي والجماعي. وقد برزت بعد الحرب معاهد وكليات تهدف، بشكل أساسي، إلى إطلاع الشريحة اليهودية العلمانية على الدراسات الدينية، وتعليمهم التراث اليهودي، حتى في جوانبه "الصوفية".
قصارى القول إن المسؤولين عن عار هذه الهزيمة الفاجعة لا يتحملون فقط المسؤولية عن ضياع الأراضي العربية، بل إنهم أسهموا في تغذية غرور التطرف الصهيوني في شقيه، القومي والديني، فهم يتحملون، أيضاً، المسؤولية عن زيادة كلفة التخلص من آثار هذه الحرب. ومما يصيب المرء بالإحباط أن نخباً عربية لا تزال تصر على عدم أخذ نتيجة هذه الحرب في الاعتبار عند تقييم المسؤولين عن هذه النتيجة، حيث تصر على تمجيدهم. في حين أنه لمجرد أن وقعت إسرائيل تحت وقع المفاجأة في حرب 73 التي لم يخسر الكيان الصهيوني في نهايتها شبراً واحداً مما احتله من أراض عربية، اضطرت القيادات السياسية والعسكرية للاستقالة مكللة بالعار. من أسف، إن الاختلاف في التعاطي بيننا وبين الصهاينة في كل ما يتعلق بثنائية الهزيمة والانتصار يرجع، بشكل أساس، للاختلاف في التعاطي مع المصالح الوطنية والقومية، ويعكس البون الشاسع في محددات التقدير الذاتي.

دلالات