"الطريق إلى القدس".. كل يغني على ليلاه

15 ديسمبر 2017
+ الخط -
تشكل ردود الفعل العربية بأنواعها، الرسمية والإعلامية والسياسية والشعبية، على قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل مقر السفارة الأميركية إليها، حالة نموذجية لأمراض الوطن العربي.
ولأن كاتب هذه السطور مصري الجنسية، فقد تابع تفاصيل ردود فعل النظام المصري وأذرعه السياسية والإعلامية بدقة، فوجد أن أذرع النظام الإعلامية تتهم قطر والرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وجماعة الإخوان المسلمين وحركة حماس وتنظيمي الدولة الإسلامية (داعش) والقاعدة، بأنهم المسؤولون عن القرار. وتعدى رئيس تحرير صحيفة اليوم السابع ذلك إلى المطالبة بمحاكمة "حماس" وحزب الله و"القاعدة" و"داعش" على ضياع القدس، لأنهم شغلوا الجيوش العربية عن محاربة إسرائيل! وكأن الجيوش العربية تحارب هؤلاء منذ 60 عاما مثلا، وكأن عبد الفتاح السيسي ليس حاكما لدولة عربية، من المفترض أن يتخذ إجراءات واضحة وحازمة تجاه القرار. والمفارقة أن هذا الشخص كان أول المطبّلين والمهللين لفوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية، ووصف المعارضين لترامب بأنهم "أرامل كلينتون"، ليرد عليه باسم يوسف بهاشتاغ شهير، أصبح الأول في العالم، وكانت فضيحة عالمية للسيد رئيس التحرير. كما كانت الأذرع الإعلامية جميعا في حالة نشوة، بعد فوز ترامب في الانتخابات، وكانوا يتسابقون على تشبيهه بالسيسي، وبأن وجهات نظرهما متطابقة في كل القضايا، والتقطت الكاميرات صوت السيسي في أثناء زيارته الولايات المتحدة، وهو يقول لترامب إنه سيدعمه في "صفقة القرن" التي تتكشف خيوطها يوما بعد يوم.
وعلى الرغم من أن هذا العته الإعلامي معروف، ومعتاد من الإعلام المصري الموالي 
للسيسي، إلا أن العته والخبل امتدا إلى برلمان الأخير أيضا، فقد اتهم دولة قطر على لسان رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب بأنها السبب في اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل "لأن الدوحة تسببت في انشغال الدول العربية بالإرهاب" على حد قوله، مدّعيا أن قطر لم تصدر أي رد فعل على القرار، في كذبةٍ صريحةٍ تورّط فيها النائب مع المذيع أحمد موسى الذي زعم الأمر نفسه، على الرغم من إدانة قطر الواضحة منذ البداية للقرار.
ظهرت هذه القنابل الدخانية التي حاولت فيها أذرع النظام التغطية على مواقفه المخزية واضحة في بيان الرئاسة المصرية، ردا على القرار، والذي قال إنه "لم يأتِ في السياق المتفق عليه"، في إشارة إلى وجود اتفاق مسبق بشأن القرار في سياق معين، لم يلتزم به ترامب، وهو ما كشفت عنه القناة العاشرة الإسرائيلية التي ذكرت أن الرئيس الأميركي قرر الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، بعد حصوله على ضوء أخضر من مصر والسعودية. أما السيسي نفسه فلم يتحدث عن الموضوع مطلقا، على الرغم من أنه ظهر في اليومين التاليين للقرار، في أحد مؤتمراته الهزلية التي يتحدث فيها عن دعم الشباب، وكل هذا الهراء الذي يدمنه، والغريب أنه ظهر في حالة مزاجية ممتازة، وامتزجت كلماته بعشرات الضحكات والقهقهات والابتسامات، وكأنه حقق إنجازا ضخما!
وفي أرض الواقع، تكشفت السياسة الحقيقية لنظام السيسي مع القرار، بعد أن اعتدت قوات الأمن على المظاهرات التي حاولت الخروج لإبداء تضامنها مع القدس أمام نقابة الصحافيين والجامع الأزهر، وألقت القبض على عدد من المتظاهرين، في مشهدٍ لم يتكرر إلا في الأراضي الفلسطينية المحتلة نفسها، فجميع الحكام العرب تقريبا سمحوا بخروج المظاهرات المندّدة بقرار ترامب والمتضامنة مع القدس، مثل الأردن والجزائر وتونس والسودان، عدا السيسي! في مشهد ذكّرنا بقمع السيسي مظاهرات ضد التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، كانت ترفع الأعلام المصرية، مقابل الاحتفاء بمن يرفعون الأعلام السعودية، والمؤيدين للتنازل عن الجزيرتين.
لكن يمكن قراءة سلوك قوات الأمن مع المتظاهرين، من منطلق أصبح واضحا الآن، وهو أن السيسي يخاف كل الخوف من أي تجمعاتٍ شعبيةٍ تحت أي ظرف، ولأي سبب، خشية تحولها مظاهرات معارضة له، وأصبح هذا الخوف بمثابة "فوبيا" أصيب بها السيسي ونظامه، وجعلتهم يرتجفون من أي تحرّك شعبي.
وجاء النوع الثاني من ردود الفعل من شخصياتٍ المفترض أنها تحتل مناصب رسمية، فالأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية، حسام زكي، دعا الجماهير العربية إلى تداول "هاشتاغ" بعنوان "القدس عاصمة فلسطين" باللغتين العربية والإنكليزية بصورة مكثفة، ردا على القرار، في تجسيد لتحول المسؤولين العرب إلى نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي.
ووجدت الأزمة الخليجية طريقها أيضا إلى ردود الفعل على قرار ترامب، فبدلا من الدفاع عن القدس ومهاجمة ترامب، قامت الكتائب الإلكترونية السعودية بكيل الشتائم والسباب لدولة قطر 
كالعادة، واتهمتها بأنها تمتلك علاقات مع إسرائيل، وطالبتها بالتحرّك لنصرة القدس! والعجيب أن تلك الكتائب لا تنفك تؤكد أن "قضية قطر مشكلة صغيرة جدا جدا جدا"، لكنهم، في الوقت نفسه، لا يتركون قضية إلا ويلصقونها بقطر التي تحتل في تغريداتهم نصيب الأسد، متجاهلين أنه إذا كانت "قطر صغيرة" فإن السعودية "الكبيرة" يجب أن تتحرّك إذا كانوا صادقين في مزاعمهم. لكن الجديد هذه المرة هو تخصيص الرئيس التركي أردوغان بجانب كبير من الهجوم والشتائم، مع أن موقفه واضح من قرار ترامب، عكس البيان الضبابي الذي أصدره الديوان الملكي السعودي. والأكثر غرابة وجود آلاف الحسابات السعودية التي تخصصت، في الأيام الماضية، في شيطنة الشعب الفلسطيني وتشويهه وسبه بصورة غير مسبوقة، وهي حملة تبدو منسقة ومدبرة، مثل كل التحركات السعودية على مواقع التواصل الاجتماعي، بقيادة مستشارين في الديوان الملكي. ولا أدل على ذلك من ترويج مقربين من الديوان الملكي وولي العهد محمد بن سلمان علنا للتطبيع مع إسرائيل، مثل تصريح ناشر ورئيس تحرير صحيفة إيلاف الإلكترونية، عثمان العمير، بأنه لا توجد مقدسات في القدس، وتأكيد رئيس تحرير صحيفة الشرق الأوسط سابقا، عبد الرحمن الراشد، بأنه لا توجد عداوات دائمة.
لتكون المحصلة أن العرب انشغلوا بشتم بعضهم بعضا، وخصصوا وقتا وجهدا لذلك أضعاف ما خصصوه للقضية الأصلية، وهي الدفاع عن القدس. وهي نكتةٌ تضاف إلى واقع العرب البائس، وتشبه نكتة أخرى ذات دلالة عن "فيلق القدس" الإيراني الذي يحارب في دول عديدة ما عدا القدس نفسها! ويكفي أن يكتب المرء على محرّك البحث "غوغل" كلمة "الطريق إلى القدس يمر عبر..." ليجد عشرات النتائج التي قالتها أنظمة وشخصيات عربية على مدار السنوات الماضية، لتبرير ديكتاتوريتها وجرائمها وتقاعسها عن نصرة القدس، بدءا من دمشق وبغداد مرورا ببيروت وصنعاء، وحتى القلمون والزبداني والسويداء، مثلما أعلن يوما الأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله، وهو يبرّر تدخله في سورية، لكنه اكتفى في كلمته تعليقا على قرار ترامب بدعوة الجماهير إلى الكتابة والتغريد عبر مواقع التواصل الاجتماعي لإدانة القرار! ليصبح الطريق إلى القدس يمر عبر "تويتر".
D90F1793-D016-4B7E-BED2-DFF867B73856
أسامة الرشيدي

صحفي وكاتب مصري، شارك في إنجاز أفلام وحلقات وثائقية عن قضايا مصرية وعربية، وكتب دراسات ومقالات نشرت في مجلات ومواقع إلكترونية.