05 نوفمبر 2024
"الجماهيرية الشعبوية الإسرائيلية العظمى"
بدت إسرائيل في مرآة ذاتها، غداة تصويت مجلس الأمن الدولي على القرار الخاص بالمستوطنات اليهودية في القدس والضفة الغربية، أمةً مهانةً في صميم الصميم، مُذلّة ومجروحة الكبرياء، كونها دولةً فوق القانون، لا يسألها سائل كم هو ثلث الثلاث، تنام وتصحو تحت حرير حق النقض (الفيتو) الأميركي باطمئنان شديد، تزداد دلالاً وتفلّتاً إلى حد الفجور، باعتبارها العضو الوحيد الذي لا يّحاسب في الأمم المتحدة على انتهاكاته الفظة لحقوق الإنسان، أو غير ذلك من الارتكابات والمخالفات والجرائم التي يندى لها جبين الإنسانية.
وفي رد فعل كاسح على القرار الأممي، وربما بسبب غرورها المفرط، بدت إسرائيل أيضاً مصابةً بجنون العظمة، تطلق مدافعها الكلامية ثقيلة العيار في كل الاتجاهات، تتوعد الدول الأربع التي قدّمت مشروع القرار بالويل والثبور، وتهدّد الدول التي صوتت لصالح المشروع بعظائم الأمور، فيما راحت تركّز جهد نسقها القتالي على إدارة باراك أوباما التي تجرّأت على الامتناع عن التصويت، كاسرةً بذلك تقليداً عمره 36 سنة، كان فيه "الفيتو" الأميركي غبّ الطلب، كلما خرجت الدولة العبرية للحرب ضد القانون الدولي، والشرعية الدولية.
إذ ما أن صدر قرار مجلس الأمن الدولي المذكور، حتى تجنّدت إسرائيل في معظمها، حكومة وأحزاباً وصحافة، لخوض معركة دبلوماسية هاذية ضد العالم الذي مسّ قدس أقداسها، وهو الاستيطان، ثم شرعت، على الفور، في حملة عقوباتٍ تثير السخرية، لا سيما تجاه الأمم المتحدة، وهي قابلتها القانونية، وإزاء الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، ناهيك عن "عصابة الأربعة" التي حلت محل مصر في تقديم مشروع القرار الدولي، السنغال ونيوزيلندا وفنزويلا وماليزيا.
ومع أن إسرائيل لم تسأل نفسها عن الفائدة التي ستعود عليها من التمادي في حملة خاسرة سلفاً
كهذه، بعد أن بات قرار مجلس الأمن حقيقةً واقعةً ومنتهيةً، وما الذي في وسع دولةٍ معزولةٍ ومنبوذةٍ أن تفعله لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، إلا أنها مضت في بلطجتها السياسية هذه، شوطاً وراء آخر، لتصنع لنفسها قصة بطولةٍ وهميةٍ فارغة، وتتمظهر بمظهر الدولة العظمى القادرة على تأديب كل من يخالفها الرأي، أو يهز صورتها الباذخة.
وبتفكيك المشهد الإسرائيلي الراهن إلى مكوّناته الأساسية، من أجل الوقوف على ماهية العنصر الرئيس الحامل نوبة الغرور الصهيونية، وغيرها من مفردات جنون العظمة التي تتلبس الذهنية الإسرائيلية المصدومة بقرار مجلس الأمن، فإنه يمكن رؤية ميْلٍ مستتر نحو التمثل بدونالد ترامب الطائش، ومحاكاة ذلك النموذج المتفلت من قواعد اللعبة الدولية التي بشّر بها الرئيس الأميركي المنتخب بتحطيمها على الملأ، خصوصاً إبّان حملته الانتخابية، وما فاض خلالها من روحٍ عدوانية، ولغة استفزازية، وجنوحٍ إلى كسر ثوابت العلاقات الدولية.
غير أن التدقيق أكثر فأكثر في ملامح المشهد الذي يتمحور حول شخصية بنيامين نتنياهو الذي كثيراً ما يوصف بأنه أحد ملوك إسرائيل الجدد، فإنه يمكن رؤية ظلال شخصية أخرى كانت مغرمةً بصناعة البطولات الكاذبة، والتفنّن باختلاق مظاهر القوة المزعومة، ناهيك عن عبادة الشخصية، وجنون العظمة ذاتها، ونعني به الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي الذي أطلق على نفسه ملك ملوك إفريقيا، وعميد حكام العالم، وجعل من ليبيا جماهيريةً شعبيةً اشتراكيةً عظمى، تعلو منزلتها مكانة أيٍّ من الدول العادية الأخرى.
وبشيء من التأويل والإسقاط والمقاربة المتخيلة، فقد بدت إسرائيل، تحت إدارة بنيامين نتنياهو، أقرب ما تكون إلى جماهيرية عظمى، لا ينقصها سوى الكتاب الأخضر وبعض اللجان الشعبية، فيما بدا نتنياهو، وهو يشدّ على نواجذه، مخاطباً العالم بعصبية وانفعال شديد، أشبه بمعمر القذافي، الذي لم يصدّق أن الليبيين قد ثاروا عليه فجأةً ورغبوا في خلعه. حيث كاد لسان حال رئيس الوزراء الإسرائيلي يقول لدول العالم: "من أنتم؟" لو أنه أطل ليلاً من مكانٍ يشبه باب العزيزية، في تل أبيب أو القدس أو غيرهما.
ذلك أن الفكرة الجوهرية الكامنة في قلب مفهوم "الجماهيرية" هي فكرة العظمة في حد ذاتها،
ناهيك عن التفخيم والمبالغة والتعالي، وكل تلك المظاهر الطاووسية التي تتستّر على واقع دولةٍ قشريةٍ واهنة، تماماً كما كانت عليه ليبيا المتخلفة الفاشلة. كما جاء سؤال معمر القذافي ودهشته المفرطة "من أنتم؟"، غداة انفجار الثورة الشعبية على حكمه العائلي الفاسد، مثالاً أكثر ملموسيةً على الشعور بعظمةٍ لا أساس لها، إن لم نقل حالة الإنكار التي كان يعيشها.
ولعل شيئاً من هذه الفكرة المجنونة كان كامناً في تلافيف الذهنية الإسرائيلية المأخوذة بسكرة القوة، حين راح بنيامين نتنياهو يتعجّب مما جرى في مجلس الأمن الدولي، قائلاً: من هي هذه الأمم المتحدة لتقول لنا ما ينبغي علينا اتباعه في شأن الأراضي الفلسطينية المحتلة؟ من تكون السنغال التي نساعدها ببناء البيوت البلاستيكية وأنابيب الري بالتنقيط؟ ومن هي نيوزيلندا التي كثيراً ما استخدمنا جوازات سفرها لتنفيذ عمليات الاغتيال في الخارج؟ وحدّث ولا حرج عن أوكرانيا والصين وبريطانيا وبقية الدول الأخرى؟
في نوبة الهستيريا السياسية المطبقة الذي غشيت إسرائيل، جرّاء تمرير واشنطن قرار مجلس الأمن ضد المستوطنات، كان من الصعب العثور في الإعلام الإسرائيلي على سؤالٍ من وزن "من يعاقب من؟" في العلاقة بين إسرائيل والأمم المتحدة، أو سؤال من طراز "مَن يخاف مَن؟"، إسرائيل أم مجلس الأمن الدولي؟ فما دام أن نتنياهو يحاول أن يكون دونالد ترامب ما غيره، أو ربما فلاديمير بوتين، ويظهر بمظهر زعيمٍ ذي فحولةٍ زائدة، ويخوض معركته اليائسة لأجل المستوطنات بعقلية "متسادا" الانتحارية، ويعتقد أن الرئيس الأميركي الجديد سوف يعيد الأمر إلى نصابه عما قريب، فإن علينا أن ننتظر لنرى مزيداً من الهوس الإسرائيلي بمنطق القوة وجنون العظمة، وغيرها من هذيان أحبولة "الجماهيرية العظمى".
وفي رد فعل كاسح على القرار الأممي، وربما بسبب غرورها المفرط، بدت إسرائيل أيضاً مصابةً بجنون العظمة، تطلق مدافعها الكلامية ثقيلة العيار في كل الاتجاهات، تتوعد الدول الأربع التي قدّمت مشروع القرار بالويل والثبور، وتهدّد الدول التي صوتت لصالح المشروع بعظائم الأمور، فيما راحت تركّز جهد نسقها القتالي على إدارة باراك أوباما التي تجرّأت على الامتناع عن التصويت، كاسرةً بذلك تقليداً عمره 36 سنة، كان فيه "الفيتو" الأميركي غبّ الطلب، كلما خرجت الدولة العبرية للحرب ضد القانون الدولي، والشرعية الدولية.
إذ ما أن صدر قرار مجلس الأمن الدولي المذكور، حتى تجنّدت إسرائيل في معظمها، حكومة وأحزاباً وصحافة، لخوض معركة دبلوماسية هاذية ضد العالم الذي مسّ قدس أقداسها، وهو الاستيطان، ثم شرعت، على الفور، في حملة عقوباتٍ تثير السخرية، لا سيما تجاه الأمم المتحدة، وهي قابلتها القانونية، وإزاء الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، ناهيك عن "عصابة الأربعة" التي حلت محل مصر في تقديم مشروع القرار الدولي، السنغال ونيوزيلندا وفنزويلا وماليزيا.
ومع أن إسرائيل لم تسأل نفسها عن الفائدة التي ستعود عليها من التمادي في حملة خاسرة سلفاً
وبتفكيك المشهد الإسرائيلي الراهن إلى مكوّناته الأساسية، من أجل الوقوف على ماهية العنصر الرئيس الحامل نوبة الغرور الصهيونية، وغيرها من مفردات جنون العظمة التي تتلبس الذهنية الإسرائيلية المصدومة بقرار مجلس الأمن، فإنه يمكن رؤية ميْلٍ مستتر نحو التمثل بدونالد ترامب الطائش، ومحاكاة ذلك النموذج المتفلت من قواعد اللعبة الدولية التي بشّر بها الرئيس الأميركي المنتخب بتحطيمها على الملأ، خصوصاً إبّان حملته الانتخابية، وما فاض خلالها من روحٍ عدوانية، ولغة استفزازية، وجنوحٍ إلى كسر ثوابت العلاقات الدولية.
غير أن التدقيق أكثر فأكثر في ملامح المشهد الذي يتمحور حول شخصية بنيامين نتنياهو الذي كثيراً ما يوصف بأنه أحد ملوك إسرائيل الجدد، فإنه يمكن رؤية ظلال شخصية أخرى كانت مغرمةً بصناعة البطولات الكاذبة، والتفنّن باختلاق مظاهر القوة المزعومة، ناهيك عن عبادة الشخصية، وجنون العظمة ذاتها، ونعني به الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي الذي أطلق على نفسه ملك ملوك إفريقيا، وعميد حكام العالم، وجعل من ليبيا جماهيريةً شعبيةً اشتراكيةً عظمى، تعلو منزلتها مكانة أيٍّ من الدول العادية الأخرى.
وبشيء من التأويل والإسقاط والمقاربة المتخيلة، فقد بدت إسرائيل، تحت إدارة بنيامين نتنياهو، أقرب ما تكون إلى جماهيرية عظمى، لا ينقصها سوى الكتاب الأخضر وبعض اللجان الشعبية، فيما بدا نتنياهو، وهو يشدّ على نواجذه، مخاطباً العالم بعصبية وانفعال شديد، أشبه بمعمر القذافي، الذي لم يصدّق أن الليبيين قد ثاروا عليه فجأةً ورغبوا في خلعه. حيث كاد لسان حال رئيس الوزراء الإسرائيلي يقول لدول العالم: "من أنتم؟" لو أنه أطل ليلاً من مكانٍ يشبه باب العزيزية، في تل أبيب أو القدس أو غيرهما.
ذلك أن الفكرة الجوهرية الكامنة في قلب مفهوم "الجماهيرية" هي فكرة العظمة في حد ذاتها،
ولعل شيئاً من هذه الفكرة المجنونة كان كامناً في تلافيف الذهنية الإسرائيلية المأخوذة بسكرة القوة، حين راح بنيامين نتنياهو يتعجّب مما جرى في مجلس الأمن الدولي، قائلاً: من هي هذه الأمم المتحدة لتقول لنا ما ينبغي علينا اتباعه في شأن الأراضي الفلسطينية المحتلة؟ من تكون السنغال التي نساعدها ببناء البيوت البلاستيكية وأنابيب الري بالتنقيط؟ ومن هي نيوزيلندا التي كثيراً ما استخدمنا جوازات سفرها لتنفيذ عمليات الاغتيال في الخارج؟ وحدّث ولا حرج عن أوكرانيا والصين وبريطانيا وبقية الدول الأخرى؟
في نوبة الهستيريا السياسية المطبقة الذي غشيت إسرائيل، جرّاء تمرير واشنطن قرار مجلس الأمن ضد المستوطنات، كان من الصعب العثور في الإعلام الإسرائيلي على سؤالٍ من وزن "من يعاقب من؟" في العلاقة بين إسرائيل والأمم المتحدة، أو سؤال من طراز "مَن يخاف مَن؟"، إسرائيل أم مجلس الأمن الدولي؟ فما دام أن نتنياهو يحاول أن يكون دونالد ترامب ما غيره، أو ربما فلاديمير بوتين، ويظهر بمظهر زعيمٍ ذي فحولةٍ زائدة، ويخوض معركته اليائسة لأجل المستوطنات بعقلية "متسادا" الانتحارية، ويعتقد أن الرئيس الأميركي الجديد سوف يعيد الأمر إلى نصابه عما قريب، فإن علينا أن ننتظر لنرى مزيداً من الهوس الإسرائيلي بمنطق القوة وجنون العظمة، وغيرها من هذيان أحبولة "الجماهيرية العظمى".
مقالات أخرى
29 أكتوبر 2024
22 أكتوبر 2024
15 أكتوبر 2024