"البرازيل فوق كل شيء"

04 نوفمبر 2018
+ الخط -
عنونت صحيفة السياسة الخارجية، الأميركية، والتي لم يُعرف عنها محاباة اليسار، مقالا لها عن نجاح خايير بولسونارو في انتخابات الرئاسة البرازيلية "نموذجه ليس برلسكوني بل غوبلز". وفي هذا العنوان رعبٌ كثير يُخيّب ظن بعض اليمين المتطرّف غير الفاشي، وهو نادر، والذي يعتبر أن الإيطالي برلسكوني كان رمزاً للنيوليبرالية المنفلتة من أية قيود، وإذ بنا نقع في أحضان رجلٍ، إضافة إلى إعجابه الصريح بعظمة هتلر، يؤمن بالقضاء الجسدي على الخصوم، ويلجأ إلى الأخبار الكاذبة مدفوعة الأجر، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وساعدته في إقناع بعض العامّة من الناس بالمؤامرات التي يحيكها ضد البلاد من سمّاهم الشيوعيين، وهم اليسار العمالي الديمقراطي الذي كان يحكم.
رئيسٌ لا يُخفي تأييده التعذيب، ويعتبر أن الديكتاتورية السابقة التي حكمت البرازيل (1964 ـ 1985) كانت "معتدلة"، حين اكتفت باعتقال خصومها السياسيين وتعذيبهم، فيما كان عليها أن تقتلهم. وإمعاناً في إبراز ميوله الديمقراطية، والتي عن طريقها وصل إلى الحكم الأسبوع الماضي، لم يتوان عن التصريح مراتٍ، في أثناء الحملة الانتخابية، بأنه سيغلق البرلمان فور وصوله إلى الحكم، فلا يمكن إحداث تغيير في البلاد عبر التصويت، بل يجب أن ينجم التغيير عن حربٍ أهلية. حربٍ يرى أنها يجب أن تخلُص إلى ما غاب عن الجنرالات السابقين القيام به، وهو قتل 30 ألفا من أعضاء اليسار. معتبراً أنه "وإن مات بعض الأبرياء فهذا جيد جدا". سيؤسّس الرئيس الجديد لنظامٍ شبه فاشي، لأنه يعتبر أن الديكتاتورية السابقة لم تكن فعالةً كفايةً، ولا قاسيةً كفايةً لتنظيف البلاد من اليساريين، ومن السود، ومن المثليين الجنسيين، ومن النقابيين، ومن حاملي راية الدفاع عن غابات الأمازون، وعن البيئة. كل هؤلاء أعداؤه، لكنه وصل إلى إقناع نحو 55% من المقترعين ببرنامجه غير الواضح، والذي رفض أن يجادل بخصوصه في لقاءاتٍ متلفزة، متحجّجاً بوضعه الصحي.
ليست عنصرية بولسونارو تهمةً من خصومه، بل هي مبعث فخر له. وهي تتوزّع بعدل على
 مختلف الفئات، فالسود عبيدٌ لم يذهب البرتغاليون إلى الإتيان بهم من أفريقيا، وجاؤوا بأنفسهم (...). وللمرأة حصّة في جرعة الكراهية والتمييز، حيث قال لإحدى نائبات اليسار على التلفزيون إنه "لن يغتصبها لأنها لا تستحق ذلك". وللمثليين حصة الأسد في ألفاظه النابية. ومن "طرائفه"، اعتبار حقوق الإنسان اختراعاً شيوعياً، ساعدت الأمم المتحدة في إخراجه إلى العلن، متوعّداً بالانسحاب من المنظمة الأممية، وهذا ما لن يقوم به، وإنما سيقوم بحركاتٍ مسرحيةٍ ترامبية بالانسحاب من بعض برامجها ومؤسّساتها. وبدايةً من اتفاق باريس الأممي لحماية البيئة.
يود الرئيس الجديد أيضاً بيع كل مؤسسات الدولة وأملاكها ومصانعها ومزارعها، كما يرغب في إلغاء قانون العمل، والقضاء على الحد الأدنى للأجور والعطلة الأسبوعية. وقد وعد بأن يمنح شركات الخشب كل الإمكانية للاستثمار في الأمازون، ما يمكن أن يؤدّي إلى زوال هذه المحمية العالمية، والتي تعتبر رئة الكرة الأرضية في فترةٍ لا تتجاوز العشر سنوات، كما يصرح الخبراء.
ما الذي دفع شعباً حياً مليئاً بحب الحياة والحرية إلى انتخاب، وبنسبة عالية، رئيساً يُعيده إلى حقبة الديكتاتورية السوداء؟ أوضحت الإحصائيات أن أكثر من 60% من ناخبيه لا تتجاوز أعمارهم 34 سنة، فهم من جيلٍ لم يعرف الديكتاتورية، وتنحصر همومهم في تحقيق الأمن الجسدي والأمان الاقتصادي، باعتقاد أن الليبرالية المنفلتة ستمنح الجميع جزءاً من عوائدها الوهمية. من جهة أخرى، اقترع جزء كبير من الطبقة الوسطى حديثة التشكل، بفضل السياسات الاقتصادية، على الرغم من الفساد، لليسار العمالي، للرئيس الجديد، بخيانة موصوفةٍ لمن انتشلهم رمزياً من قعر الفقر. كما استغل الرئيس المنتخب، بصورة فاضحة، الأخبار الكاذبة التي تستند على نظريات المؤامرة وكره الصحافة.
لا يكفي كل ما سبق ليُبرّر هذا الصعود المفاجئ للتطرّف الفاشي في البرازيل، فالمؤكّد أن من 
صوّت لبولسونارو لم يصوّت لبرنامج سياسي أو فكري أو حتى اقتصادي، وإنما صوّت ضد ما سبقه من تجارب حكم، خصوصاً مع انعدام الأمن المستشري والفساد الذي ضخّمته آلة الدعاية اليمينية التقليدية، وفي مقدمها صحيفة غلوبو. ولكن اليمين الديمقراطي الجمهوري دفع ثمناً باهظاً، حيث رُمي به في سلة القمامة إلى جانب اليساريين. وحديث الرئيس الحالي عن طهارة الديكتاتورية من الفساد افتراء، حيث اتّصف الحكم الديكتاتوري في البرازيل بمستوى عال من الفساد والإفساد، وفي ظلّه، نشأ ونما العنف الحضري الذي يعتبر الرئيس الجديد مرسلا إلهيا للقضاء عليه.
يتحدّث المؤرخون عن تحوّل غير متكامل أدّى إلى اللغط الجماهيري الحالي، فالتحوّل الديمقراطي تأخر في تحديد المسؤوليات عن الانتهاكات في عهد الديكتاتورية، واكتفى بالتعويضات المادية للضحايا. ولم تُنشأ لجنة الحقيقة إلا سنة 2012، أي في وقتٍ متأخر جدا. وهي إشارات إلى المسؤولين عن الانتهاكات، من دون وضع أي مسار قضائي لمعاقبتهم، فالعدالة الانتقالية لم تطبق، واستمر الحكام السابقون في حياتهم الطبيعية والمهنية، بعد عودة الديمقراطية.
ماذا ينتظر البرازيليون من رئيس شعاره "البرازيل فوق كل شيء"، المستوحى، وباعتراف بولسونارو نفسه، من النشيد النازي؟