معاداة السامية... سيف ديموقليس العصر
في فترة الازدحام المروري، الذي يُشكّل القاعدة في باريس، وفي شارع فرعي ضيّق وسط المدينة، أراد شرطي أن يساعد سيّارة إسعاف في شقّ طريقها بين عشرات السيّارات والحافلات والدرّاجات، فبدأ بتوجيه التعليمات، بتوتّر وبشيءٍ من الحدّة، لمن كانوا يتأخّرون عن التوقّف في جانبي الطريق تسهيلاً لعبور الحالة الإسعافية. وفجأة، توقّف أحد السائقين عن السير بآليته في وسط الشارع، ونزل منها متوجّهاً إلى الشرطي، وصارخاً: "أنا يهودي، وتوجيه الأوامر إلى اليهود بهذه اللهجة انتهى عهده، لم نعد في جمهورية فيشي وأنت معادٍ للسامية". توقّف جميع من في الشارع عن الحركة، وربّما حتّى عن التنفّس، وبدا أنّهم غابوا بنظراتهم في بعدٍ ثالثٍ لا نهاية منظورة له. وللناظر عن بعد، بدا أنّه مشهدٌ سينمائي، وأنّ أحدهم قد ضغط على زر تجميد الصورة. أمّا الشرطي المسكين، فقد أُسقِطَ في يده، وقد بدا وكأنّه تلّقى صفعةً نارية، وكادت عيناه تدمعان، وبدأت ملامحُه بالتحوّل من الصرامة المتوتّرة الراغبة في تسهيل عبور حالة إسعافية إنسانية، إلى مرحلة الاسترخاء العضلي التي سرعان ما رسمت على شفتيه علامات الاستعطاف، وزرعت في وجنتيه ملامح الخوف من العقاب المرتبط بتهمة هي من أخطر ما يمكن أنّ يُتّهم به إنسان في الجمهورية الفرنسية الخامسة، وهي معاداة السامية. وانتهت الواقعة بأن يتقدّم الشرطي من السائق "السامي" مُرتعداً، وبأن يطلب منه الصفح، وبأن يُبرّر له موقفه مشيراً إلى سيّارة الإسعاف التي ما زالت تحاول المرور. وبعد أن أُضيف إلى هذا المشهد الاستعطافي، تدخّل بعض أولاد الحلال من المارّة لدى السائق مبرّرين للشرطي "خطيئته"، بدا أنّ السائق "الضحية" قد شعر بالرضى والحبور، ما حمله على امتطاء صهوة المسامحة والعودة إلى سيّارته، ومتابعة طريقه، مُودَّعاً بما يليق به من حفاوة الشرطي والمارّة.
ما سبق وقع بالفعل، وليس من محض خيال الكاتب رغم سورياليته، وهو مُؤشّرٌ على مناخٍ مُتوتّر يعيث ترهيباً في المشهد الفرنسي خصوصاً، والغربي عموماً. وهو شعورٌ منتشرٌ بارتفاع حدّة موجات معاداة اتباع الديانة اليهودية، وهو ما يُسمّى جهلاً معاداة السامية في المطلق. وتاريخ فرنسا "عريقٌ" في هذا الحقل. وقد كانت البداية في العصور الوسطى، حين فُرضت قيودٌ صارمةٌ على اليهود في مختلف المجالات، بما في ذلك التجارة والمهن. ثمّ جاءت الحملات الصليبية التي تعرّض خلالها اليهود لمجازر ونهب في العديد من المدن الفرنسية. وفي القرن الرابع عشر، طُرِدَ اليهود من فرنسا مرّات عدّة، وكانت أبرز حالات الطرد في عامي 1306 و1394، حين صُودرت ممتلكاتهم ورُحّلوا إلى الخارج. وفي القرن التاسع عشر، جرى اتهام الضابط اليهودي ألفريد دريفوس، ظلماً، بالخيانة في 1894، وحينها، كتب الكاتب الشهير إيميل زولا بيانه الشهير "إنّي أتهم". وقد أثار هذا الاتهام المُجحف جدلاً واسعاً، وأبرز الميل نحو التمييز ضدّ اليهود في المؤسّسة العسكرية، والمجتمع بشكل عام. وكردّة فعلٍ على تبرئة دريفوس، أسّس حزب العمل الفرنسي، وهو الأب الشرعي لحزب التجمّع الوطني الفرنسي الحالي، الذي يتقدّم استطلاعات الرأي في الانتخابات الأوروبية المزمع إجراؤها اليوم في فرنسا. وإبّان الاحتلال الألماني لفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية، تعاونت حكومة فيشي الفرنسية مع النازيين، وقامت بترحيل الآلاف من اليهود إلى معسكرات الموت في ألمانيا.
سياسات محسوبة أو عشوائية في فرنسا لن تؤدّي إلّا إلى تفاقم الشرخ المجتمعي
تاريخ فرنسا ليس ناصع البياض، إذاً، في التعامل مع أبنائها من الديانة اليهودية. في المقابل، شعور الذنب الطاغي الذي يمكن لهذا التاريخ أن يُشيعه لا يمكن له أن يُبرّر التوجّه الرسمي والإعلامي الحالي، المُترافق، خصوصاً، مع مجازر بشعة ترتكبها قوات إسرائيلية بحقّ الشعب الفلسطيني، توجّهٌ أقلّ ما يُخشى من نتائجه أن تكون عامل تشجيع على ارتفاع مستوى معاداة اتباع الديانة اليهودية في فرنسا، لأنّ الخطابَين الرسمي والإعلامي قد خلطا المفاهيم عن دراية أو عن غباء، بين التصدّي الأخلاقي والإنساني والقانوني للسياسات الصهيونية، ومعاداة أتباع الديانة اليهودية، فالتبرير المُستمرّ، والتأييد الواضح للسياسة الإسرائيلية، رغم الانتقادات الخجولة، من هنا ومن هناك، لن تنجم عنهما إلّا ردّات فعل سلبية تجاه مجموعة دينية غالب أعضائها أبرياء مما يرتكبه مجرمون تحت رايتهم.
في العشاء السنوي الـ38 لمجلس المؤسّسات اليهودية في فرنسا (CRIF)، في 6 الشهر الماضي (مايو/ أيّار)، والذي تتزاحم على حضوره مختلف الأقطاب السياسية الفرنسية، ألقى رئيس الوزراء الفرنسي غابريال أتال خطاباً ركّز على مكافحة معاداة السامية، وسلّط الضوء على الفظائع التي عانت منها إسرائيل في 7 أكتوبر (2023)، معبّراً عن شعوره بالخجل تجاه أولئك الذين يبرّرون أو يقلّلون من فداحة هذه العملية، من دون أيّ إشارة تُذكر لفداحة وهمجية ما يسميه الغرب الردّ الإسرائيلي.
سياسات محسوبة أو عشوائية لن تؤدّي إلّا إلى تفاقم الشرخ المجتمعي، وتعزيز الشعور بتمييزٍ ما في المجال العام في بلاد هي في أمسّ الحاجة إلى رجل أو امرأة دولة، مفقودين حتّى إشعار آخر.