"إعلام السيسي"
لا نعني بإعلام السيسي، نِسْبَةً إلى حاكم مصر الجديد، الجنرال عبد الفتاح السيسي، تلك القنوات التلفزيونية أو الصحف الورقية أو المواقع الرقمية التي تساند الجنرال القوي، منذ انقلابه قبل عام على أول سلطة مدنية في بلاده، وإنما المقصود هو المفهوم الجديد لنموذج إعلام السلطة الذي سيدخل معاجم الإعلام. ففي أحدث تقرير صادر عن "مراسلون بلا حدود" عن التصنيف العالمي لحرية الصحافة عام 2014، يتحدث عن "سِيسيزاسون" " Sissi-isation "، أي نموذج الإعلام في عهد السيسي.
فما هو هذا النموذج الجديد للإعلام الذي تقول المنظمة الفرنسية، إن جنرال مصر القوي يسعى إلى فرضه على وسائل الإعلام المصرية والأجنبية المعتمدة في بلاده؟ يكتفي التقرير بالإشارة إلى الحملة الممنهجة التي تقودها السلطات المصرية منذ يوليو/تموز 2013، ضد وسائل الإعلام الأجنبية، وتلك المقربة من "الإخوان المسلمين"، أو فقط المشكوك في أنها مقربة منهم، وما صاحب ذلك من قتل الصحافيين واعتقالهم وتعنيفهم، وإغلاق مكاتب ومنع وسائل إعلام مصرية وأجنبية.
يصف التقرير هذه الحملة بـ"مطاردة الإخوان"، في إحالةٍ دالةٍ على حقبة تاريخية سوداء من تاريخ أوروبا، سميت بحقبة "مطاردة الساحرات". ففي القرن الرابع عشر ميلادي، شنت الكنسيتان، الكاثوليكية والبروتستانتية، حرباً شعواء ضد السحرة والساحرات الذين كانت تنسب لهم شرور شتى، حيث كانوا يلامون على الضرع إذا جفَّ، والزرع إذا يبس، ونصب لهم ما عرف بـ"محاكم التفتيش" التي كانت تصدر أحكام الإعدامات بالجملة. ولعل ما تشهده مصر، اليوم، من محاكمات تصدر أحكام إعدام بالجملة، ومطاردات ضد "الإخوان المسلمين" ومناصريهم، هو ما ذَكَّر المنظمة الفرنسية بتلك الحقبة السوداء من تاريخ أوروبا والبشرية عموما.
لكن، أليست لـ"إعلام السيسي" صورة أخرى، غير التي حاولت المنظمة الحقوقية رسمها؟ فإلى جانب هذه الصورة الحقوقية السوداء، هناك صور أخرى ساخرة، وأخرى مضحكة بشكل غبي، وصور كثيرة مُستفِزَّة ومُسِفّة ومُذِلّة برسالة الإعلام. إنها الصور التي تختزلها، بكثافة بالغة، المذيعة التي تتكلم بغنج، وعلى صدرها البارز قلادة من أحرفٍ فضيةٍ لاسم "السيسي"، ومقدم البرنامج الذي يزغرد تزلفاً ونفاقاً لترشح السيسي، والمنشط المتملق الذي يدخل استوديو فضائيته على متن دراجته الهوائية وقبعته الواقية، استجابة، ودائما، لدعوة السيسي، المصريين لركوب الدراجات، حلاً لأزمة البنزين، من دون مراعاة زحمة المرور في شوارع القاهرة!
إنه باختصار نموذج الإعلام المتملق، والمنافق، ومزيف الحقائق، إعلام "البروباغندا"، الذي يعمل على تحذير العقول، وصناعة "الأساطير المؤسسة" للاستبداد والحامية للفساد.
قبل نموذج "إعلام السيسي" الذي بدأ، مع الأسف، ينتقل إلى أكثر من بلد عربي في المشرق والمغرب، بليت المنطقة العربية بنموذج آخر سيء، إنه "إعلام بن علي"، نسبة إلى الرئيس التونسي الهارب زين العابدين بن علي. كان هذا الإعلام يوصف في الصحافة الفرنسية بـ "بِنَلِزاسيون" "Bénalisation"، وهو يقوم على تقديس الحاكم، ومادته اليومية الخام، هي النهش في أعراض وشرف كل صاحب رأي مخالف. ومع الثورة التونسية، انهار صرح هذا النموذج في بلاده، لكن أزلامه مازالوا يظهرون ويختفون، من ثعالب جبانة، في تونس وفي أكثر من بلد عربي، كان يسير على خطى نموذج الديكتاتور التونسي المختبئ في منفاه السعودي المريح.
إن الحديث اليوم عن نموذج جديد للإعلام العربي اسمه "إعلام السيسي"، لا يعني أن الإعلام في عهد حكم "الإخوان المسلمين" في مصر كان يعيش أزهى أيامه. فقد سعى "الإخوان"، بشكل منهجي، إلى إخضاع وسائل الإعلام لسلطة جماعتهم، من خلال دستورهم الذي أخضع حرية الإعلام لقيود أخلاقية ودينية. ومن خلال عدد الشكاوي ضد إعلاميين ومبدعين، بتهم "ازدراء الرئيس"، و"ازدراء الأديان"، و"إشاعة الإلحاد" و"تهديد الأمن العام"... ولو أن عهد مرسي، استمر على نهجه لظهر مصطلح "المٌرسِليزاسيون"، "Morsilisation". لكن، وقبل عزله سيعلن الرئيس مرسي، عن نيته في سحب الدعاوى المرفوعة بشأن الإساءة إليه هو شخصيّاً، لكن، بعد فوات الأوان!
وما بين "إعلام بن علي" و"إعلام السيسي"، مروراً بمساوئ إعلام عهد مرسي، وقبلهم إعلام القمع والكذب في جمهوريات الخوف في عهدي عبد الناصر وإذاعته "صوت العرب"، وصدام حسين ووزير إعلامه محمد الصحاف، وإعلام "مونتاج الصور" في عهد حسني مبارك، وإعلام "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" تحت حكم آل الأسد، وإعلام "الزحف الأخضر" زمن معمر القذافي، وإعلام شراء الذمم في مملكات النفط والغاز، وإعلام "تقديس الأشخاص" في مماليك الاستبداد والفساد، يطرح السؤال عربياً وراهنياً: أليس من حق المواطن في شرق وجنوب المتوسط التمتع بإعلام حر؟ إعلام يبتعد بنا عن إعلام الدجل والدجالين الذين حولوا أنفسهم إلى أنبياء كذَّابين ومٌعَلِمين مزَيَّفين، وصنعوا من أسيادهم آلهة مبجلة. هؤلاء الذين حذر منهم الكتاب المقدس، بقوله "وَلٰكِنْ كَانَ أَيْضًا بَيْنَ ٱلشَّعْبِ أَنْبِيَاءُ دَجَّالُونَ، كَمَا سَيَكُونُ أَيْضًا بَيْنَكُمْ مُعَلِّمُونَ دَجَّالُونَ. هٰؤُلَاءِ سَيَدُسُّونَ بِدَعًا مُهْلِكَةً وَيُنْكِرُونَ كُلِّيًّا مَالِكَهُمُ ٱلَّذِي ٱشْتَرَاهُمْ، جَالِبِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ هَلَاكًا سَرِيعًا. وَسَيَتَّبِعُ كَثِيرُونَ أَعْمَالَ فُجُورِهِمْ، وَبِسَبَبِ هٰؤُلَاءِ سَيُقَالُ كَلَامٌ مُهِينٌ عَلَى طَرِيقِ ٱلْحَقِّ". مع فارق كبير بين دجالي الكتاب المقدس ودجالي إعلام التقديس، هو أن دجالي العصر الحالي لا يُنْكِرُونَ مَالِكَهُمُ إلا بعد سقوطه، أو خلعه، أو هروبه، ولا يستطيعون أن يعيشوا من دون مالكين جدد!