البعد الآخر لجريمة اغتيال الشهيد نصر الله
كان استشهاد أمين عام حزب الله، المقاوم الكبير حسن نصر الله، متوقّعاً، وبالنسبة للشهيد كانت تلك أمنيته وغايته، بحكم عقيدته واختياره مقاتلة عدوٍّ بلا أخلاق ولا قيم، تسلحه وتحميه أقوى الدول في العالم "المتحضر". المفارقة في حدث استشهاد "سيد المقاومة"، كما يصفه أنصاره، عن جدارة واستحقاق، نظرة العالم الغربي، ومعه كثيرون من المتصهينين العرب، إلى جريمة اغتيال سياسي متكاملة الأركان، أنها إنجاز أمني وسياسي واستراتيجي كبير للكيان الصهيوني المجرم الذي قتل منذ نحو عام قرابة 42 ألف فلسطيني في غزّة، ونحو 1700 لبناني، و700 في الضفة الغربية، وجرح أكثر من مائة ألف فلسطيني وأكثر من ثمانية آلاف لبناني، في حرب عدوانية غير متناظرة، ينفّذ فيها مجازره بتجريب أقوى (وأحدث) الأسلحة التي يزوده بها الغرب المتواطئ معه في جرائمه.
لن نقف عند الأخطاء أو القصور أو الثغرات التي استغلتها إسرائيل، والمخابرات الأجنبية التي تساعدها، في تحقيق كثير من أهدافها في لبنان في مدّة وجيزة، فما يُروّج هو دعايات وتحليلات ومحاولات لقراءة وتفسير ما جرى، بدون أدلة ملموسة أو حجج مقنعة، ويجب انتظار وقتٍ كثيرٍ قبل أن تكشف المخابرات الإسرائيلية أو الأجنبية أو أحد الفاعلين السياسيين أو الأمنيين المتورّطين في ارتكاب هذه الجريمة في تسريباتهم إلى صحافتهم أو في مذكراتهم، عن تفاصيل أكثر تساعد على فهم ما جرى وكيف ولماذا؟ وإلا أي انجاز هذا الذي يفتخر به جيش الاحتلال وداعموه ومناصروه من المتصهينين العرب، أن ترمي من السماء 80 قنبلة من زنة ألف طن على مبانٍ سكنية تعرف أن طائراتك لن تتعرّض لأي هجوم في سمائها؟ أي مجرم عديم الأخلاق وعديم القيم يمكنه أن ينجز مثل هذه المهمة القذرة التي لا تحتاج شجاعة أو جسارة فائقة ترفع صاحبها إلى درجة "البطل".
أي انجاز يفتخر به جيش الاحتلال ومناصروه من المتصهينين العرب برمي 80 قنبلة من زنة ألف طن على مبانٍ تعرف أن طائراتك لن تتعرّض لأي هجوم في سمائها؟
لنتصوّر لحظة أن الجيش الروسي الذي يملك ترسانة عسكرية ضخمة ذات قوة تدميرية كبيرة اغتال الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلنسكي، بالطريقة التي اغتال بها جيش الاحتلال نصر الله، ماذا كان سيكون موقف الغرب وإعلامه الذي فقد كل مصداقية؟ هل كان سيذهب إلى تحليل قوة السلاح الروسي، وخبرة المخابرات الروسية التي تعقّبت مكان وجود زيلنسكي؟ هل كانت التحاليل ستركّز على الثغرات التي نَفذَت منها المخابرات الروسية لتنفيذ الاغتيال؟ هل كان النقاش سينصبّ فقط على التأثير الاستراتيجي لمثل هذه العملية على مستقبل الحرب ومواقف الأطراف فيها؟ أم كان النقاش سيتّخذ طريقاً آخر، طريق النقاش القانوني للجريمة وأبعادها السياسية وتبعاتها القضائية؟ هل كان التعامل معها سيعدّ إنجازاً أو اختراقاً، كل حسب موقفه وموقعه، أم كان سيُنظر إليها جريمة اغتيال سياسي تستدعي تحريك آليات قانونية وقضائية دولية لمعاقبة الجاني وعدم السكوت عن مثل أفعال إجرامية كهذه تخرق كل القوانين والعهود الدولية وأعراف وأخلاق الجيوش أثناء الحروب والنزاعات الدولية؟ هل كانت المنظمات والآليات الدولية الحقوقية والقانونية ستقف مكتوفة الأيدي متفرّجة صامتة كما هو الحال مع جريمة اغتيال نصر الله؟ كثير من مثل هذه الأسئلة تجعل المفارقة كبيرة والمعايير تختلّ أكثر عندما يتعلق الأمر بالجرائم الإسرائيلية وبضحايا جرائم كهذه عندما يتعلق الأمر بالعرب والمسلمين!
ما يجب ألا نغفل عنه، رغم قوة الصدمة، أن اغتيال الشهيد حسن نصر الله، جريمة سياسية يحرّمها القانون الدولي، بصفتها "عملية قتل مستهدف خارج نطاق القانون"، لأنها استهدفت الحقّ في الحياة الذي يعتبر الحقّ الأول والأكثر أهمية للأفراد، والذي بدونه يستحيل التمتع بالحقوق الأخرى. وهي ترقى إلى جريمة إعدام خارج نطاق القضاء من دون محاكمة مسبقة توفر كل الضمانات القضائية، يرتكبها موظف الدولة عمداً، أو بموافقة الدولة، وفي حالة الشهيد نصر الله، فالدولة الإسرائيلية وكبار مسؤوليها خرجوا يتباهون بالجريمة التي ارتكبوها، ما يضعنا أمام عملية إعدام مستهدف خارج نطاق القضاء، تصنّف قانونياً جريمة حرب، ويمكن أن ترقى أيضاً إلى مستوى الإبادة الجماعية أو جريمة ضد الإنسانية في حالات معينة أو إذا كانت جزءاً من ممارسة جماعية. والسكوت عن مثل هذه الاغتيالات المستهدفة والمتعمدة يمثل ترخيصاً للقتل على نطاق عالمي، يؤدّي إلى تقويض أسس مبدأ وحدة الأراضي وسيادتها، ويساهم في الفوضى العالمية، لأنه يبيح "للأقوياء" القتل كما يحلو لهم، في تحدٍ لقواعد القانون الدولي ومن دون مراعاة لسيادة الدول، الأمر الذي يهدّد الاستقرار العالمي، ويُحول العالم بحكم الأمر الواقع إلى غابة، خاصة أمام الغياب الكلي للعدالة الجنائية الدولية التي أصبحت تُطرح بشأن وجودها أسئلة كثيرة مشكّكة في نزاهتها واستقلاليتها عن الدول العظمى المتحكّمة في قراراتها، ما يجعل السؤال ملحّاً وآنياً بشأن التدابير القانونية التي يجب استحداثها لإصلاح هذه العدالة لتجنّب تكرار ارتكاب كل الجرائم التي تنتهك الحق في الحياة للأفراد، وحتى تحول مستقبلاً دون إفلات المجرمين من العقاب.
مهما اختلفنا بشأن تقييم مسيرة الشهيد الذي سيحكم عليه التاريخ بما له وما عليه، يكفي التذكير بوقوفه عاماً إلى جانب مظلومي غزّة
أما على مستوى أثر هذه الجريمة على الحرب التي أعلنتها إسرائيل لإقامة مشروعها التوسّعي الاستيطاني الاحتلالي، وفرض هيمنتها وغطرستها على المنطقة وشعوبها وحكامها، فهي انتصرت فقط بعدد مجازر الإبادة الجماعية التي ارتكبتها، وبعدد الضحايا من المدنيين، أغلبهم من الأطفال والنساء، الذين قتلتهم في غزّة والضفة الغربية ولبنان، كما انتصرت بقوة السلاح الغربي المدمّر الذي تجرّبه يومياً على مواطنين عزّل أبرياء، وانتصرت أيضاً بالقوة المدمّرة لأطنان المتفجرات التي أسقطتها على غزة ولبنان وأحرقت الأخضر واليابس، وكلها قنابل مستوردة ومن أموال دافعي الضرائب في أميركا وألمانيا وبريطانيا وكندا وأستراليا وفرنسا، لكنها فشلت في أمر واحد مهم وأساسي، ليس اليوم، وإنما منذ أن قام كيانها على الأراضي الفلسطينية المغتصبة، ويتعلق الأمر هنا بكسر إرادة الإنسان الذي تحاربه، فلسطينياً كان أو لبنانياً أو عربياً بصفة عامة. قوة الإرادة لدى الشعب الفلسطيني واللبناني وكل الشعوب العربية التي واجهت إسرائيل هي ما كان يتسلح به الشهيد نصر الله، وهي السلاح المدمّر الذي يحوزه المجاهدون اليوم في أنفاق غزّة وفي ثغور لبنان، وهي الذخيرة الحية التي أورثها حسن نصر الله وقافلة الشهداء من غزّة إلى بيروت مروراً بكل قلاع الضفة الغربية، لمن سيخلفونهم من مجاهدين وقادة سيحملون اللواء والراية على الدرب نفسه والخط غايته ومنتهاه الحرية، وهذه قيمة إنسانية خالدة لا تموت، انتصرت دائماً على كل الأسلحة والطغاة والجبابرة.
كلمة ما قبل أخيرة، مهما اختلفنا بشأن تقييم مسيرة الشهيد وأثره الذي سيحكم عليه التاريخ بما له وما عليه، يكفي التذكير بموقفه البطولي عاماً عندما قرّر أن يقف إلى جانب مظلومي غزّة الشهيدة مناصراً ومنافحاً ومجاهداً ومدافعاً عنهم في وقت تواطأت ضدهم كل قوى العالم وخذلهم، قبل الأعداء، الأشقاء والأصدقاء من الدم نفسه، والعرق والدين نفسيهما، والملّة نفسها. لم يتأخّر نصر الله لحظة واحدة في توجيه رجاله وأسلحته نحو العدو، وفي هذا لم تخنه بوصلته، وهو الذي واجه العدو الوجودي نفسه طوال مسيرته النضالية وأدرك خطورة مشاريعه ومخططاته على المنطقة والأمة، ودفع دمه قرباناً للمبادئ التي آمن بها ودافع عنها واستشهد من أجلها، فأنعم بها من شهادة يا سيد الشهداء.