كل هذا الإرهاب الصهيوني
الأحداث المتلاحقة بسرعة قياسية وبوتيرة دراماتيكية تصاعدية غير مسبوقة التي تشهدها فلسطين المحتلة ولبنان جرّاء العدوان الإسرائيلي المتواصل منذ سنة، والذي دخل مرحلة السعار الجنوني أخيراً، مع ما يخلفه من مجازر بشعة وإبادات جماعية رهيبة يذهب ضحاياها مدنيون أغلبهم من الأطفال والنساء، كما شهدنا في أكبر هجوم تقوده آلة الحرب الصهيونية على لبنان الاثنين الماضي، وذهب ضحيته نحو 500 شهيد وأكثر من 1700 جريح في يوم واحد شنّت فيه إسرائيل أكثر من 1200 غارة على لبنان، في سابقة في الحروب المعاصرة لم يشهدها العالم منذ سنوات، من دون أن ننسى جرائم المجرم الصهيوني نفسه في غزّة الجريحة، حينما قتل جيشه "الأخلاقي" نحو 500 شهيد في قصف مستشفى المعمداني في غزّة في أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي، ... كل هذه التطورات، وبالرغم من فظاعتها ومآسيها ومخاطرها على مستقبل المنطقة، يجب ألا تنسينا الوقوف عند أفعالٍ خطيرة أقدمت عليها المؤسسة الصهيونية بكل أجهزتها السياسية والأمنية والعسكرية وداعميها الغربيين. ويتعلق الأمر هنا بمجزرة تفجيرات "البيجر" و"ووكي توكي". فما حصل يومي 17 و18 سبتمبر/ أيلول الجاري في لبنان جريمة لا تقل فظاعة وبشاعة عن أحداث "11 سبتمبر" في أميركا، ولو أن هذه التفجيرات وقعت في بلد آخر غير عربي أو إسلامي، أو لو أن من كان يقف وراءها عربي أو إسلامي، لشهدنا قيام حلف عالمي مثل الذي دعا إليه الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، لشن حربه المدمّرة ضد ما وصفه بـ "الإرهاب".
وصفت صحيفة الغارديان البريطانية، التي فقدت الكثير من مصداقيتها بسبب تغطيتها المنحازة في بداية الحرب الإجرامية على غزّة، على استحياء تلك الجرائم الإسرائيلية في لبنان بأنها "غير قانونية وغير مقبولة"!، لكنها ذكرتنا بأن مثل هذه الأفعال الإجرامية أقدم عليها قبل الصهاينة النازيون في ألمانيا والفاشيون في إيطاليا واليابان بنشر أجسام مفخّخة لاصطياد المدنيين وتفخيخ سماعات الهاتف، بل وحتى الغليون، من أجل القتل العشوائي لأكبر عدد من المدنيين، تماماً كما فعل الصهاينة عندما فخّخوا شحنة من أكثر من خمسة آلاف جهاز اتصال لاسلكي، وفجّروها دفعة واحدة من دون مبالاة بمكان وجودها أو مراعاة من كان يحملها مخلفة نحو 40 شهيدا وأكثر من ثلاثة آلاف جريح، أغلبهم من المدنيين. لكن رد فعل العالم على تفخيخ النازيين والفاشيين في أربعينات القرن الماضي أجهزة مدنية لاستهداف مدنيين، رغم أنهم لم يٌفعِّلوها أتى أكله، حتى ولو بعد مرور أكثر من قرن، من خلال إبرام معاهدة عالمية "حرّمت في كل الظروف استخدام الأجسام المفخّخة أو أي وسائل أخرى تتّخذ شكل ما يبدو أنها أجسام غير ضارّة، ولكنها في الواقع مصمّمة ومركّبة بحيث تحتوي على مواد متفجّرة"، ومن سخرية الأقدار أن من بين الموقعين على هذا البروتوكول الكيان الصهيوني!
وكي لا نسافر بعيدا في الزمن، تكفي العودة فقط إلى أشهر قليلة، ونتأمل هذه العبارات في أحد التقارير الأممية التي تصف "الهجمات المتعمّدة على المدنيين"، و"قتل المدنيين أو العاجزين عن القتال"، و"تنفيذ هجماتٍ عشوائية غير متناسبة بأسلحة متفجّرة في مناطق مأهولة بالسكان في تجاهل واضح لأضرار ومعاناة المدنيين"، ما يتسبّب في سقوط ضحايا من المدنيين، كلها أفعال "قد ترقى إلى الجرائم ضد الإنسانية". أليس هذا ما حصل فعلاً في لبنان يوم هجوم "البيجر" و"ووكي توكي"؟ هو بالفعل كذلك، بل وأكثر من ذلك. ... لكن مهلا، لا يتعلق الأمر هنا بلبنان، وإنما بأوكرانيا، والفقرات أعلاه مقتطفة من تقرير صادر عن "لجنة التحقيق الدولية المستقلة" التي أنشأها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة للتحقيق في انتهاكات (وتجاوزات) حقوق الإنسان، وانتهاكات القانون الإنساني الدولي، والجرائم ذات الصلة التي قد تكون ارتكبت في سياق العدوان الروسي على أوكرانيا!
عندما وقعت تقجيرات "بيجر" و"ووكي توكي"، رغم بشاعتها وغرابتها، لم نشهد الهبّة نفسها للضمير الغربي كما حصل مع عملية طوفان الأقصى
ما حصل يوم 17 و18 سبتمبر/ أيلول الجاري في لبنان غير طبيعي، بل إرهاب صهيوني. هكذا يجب أن نسمي الأشياء بمسمياتها، لأن تلك الأفعال تطابق تعريف الإرهاب في القانون الدولي حسب نص القرار رقم 60/43 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، في كانون الثاني/ يناير 2006، والذي يُعرِّف الأعمال الإرهابية بأنها "أعمال إجرامية يُقصد منها أو يراد بها إشاعة حالة من الرعب بين عامّة الناس أو جماعة من الأشخاص أو أشخاص معينين لأغراض سياسية". في الحالة الأوكرانية، اضطر الغرب ومؤسّساته الحقوقية والقضائية إلى ليّ عنق القانون الدولي، لاتهام روسيا بأنها ترتكب جرائم حرب بحجّة أن أعمالها العسكرية تخلّف "أضراراً بليغة بالمدنيين عن طريق المصادفة"، أليست هذه هي العبارة التي صاغها المحامون الغربيون لإدانة روسيا؟ فما بالك بأفعال الصهاينة الذين يتفاخرون بقتل مئات المدنيين في غزّة ولبنان بدعوى استهداف "إرهابيين"؟! أين المنطق هنا؟ بما أن الفاعل هنا هو الكيان الصهيوني المحمي من الغرب، فإن تصنيف هذه الأفعال أعمالاً إرهابية سيترك للتاريخ وللدارسين والباحثين، مع أن القانون الدولي واضح وفقا للمادّة 7 من النسخة المعدلة في 1997 للاتفاقية الأممية عن "حظر أو تقييد استعمال أسلحة تقليدية معينة يمكن اعتبارها مفرطة الضرر أو عشوائية الأثر"، والتي تشير صراحة إلى أن المقصود بالفخ هو "أي جهاز مصمّم أو معد للقتل أو الإصابة"، والذي "يبدو غير ضارّ"، فهل يحتاج الأمر هنا إلى مزيد من التوضيح أو التفسير والتأنّي والدراسة والتحقيق وجمع الأدلة، وغير ذلك من المراوغات السخيفة والمكشوفة لترك الجريمة للنسيان، حتى يفلت المجرم من العقاب؟!
عندما وقع هجوم السابع من أكتوبر، أصيبت الحكومات الغربية بالصدمة، وصدرت التصريحات والبيانات من كل مؤسّساتها وأجهزة إعلامها تستنكر وتدين ما حصل يومها وتصنّفه أفعالاً إرهابية وهمجية، وهلم جرا من الأوصاف التي نزعت عن الفلسطينيين كل إنسانيّتهم وحقهم في الدفاع عن أنفسهم وتقرير مصيرهم، رغم أنه بعد مرور عام على تلك الأحداث، ما زلنا لا نعرف ماذا جرى، ومن قتل من؟ وكم عدد القتلى من المستوطنين الذين قتلهم الجيش الإسرائيلي وأحرقهم داخل مستوطناتهم؟ ألم يشكّك الإعلام الإسرائيلي نفسه في صحّة السردية الصهيونية لتلك الأحداث، وخرجت تقارير أولية عن مؤسّسات إسرائيلية تتحدّث عن لجوء الدولة العبرية إلى تفعيل ما تسميه "بروتوكول هنبعل" الذي يبيح للجيش قتل المحتجزين والأسرى الصهاينة ومحتجزيهم، حتى لا يقعوا في الأسر. أما عندما وقعت تقجيرات "بيجر" و"ووكي توكي"، رغم بشاعتها وغرابتها، فلم نشهد الهبّة نفسها للضمير الغربي، بل انصبّ النقاش وما زال حول من صنّع تلك الأجهزة ومن فخّخها، وكيف فعل ذلك ومتى وأين؟ مع إشادات وانبهار بقدرة الأجهزة الاستخباراتية الصهيونية على تنفيذ عمليات معقدة كهذه (!)، ولم نسمع أي إدانات رسمية من حكومات غربية أو مؤسّسات دولية ذات مصداقية. وفي المقابل، رأينا كثيراً من الفرح والاحتفال والرقص في شوارع المدن الإسرائيلية داخل فلسطين المحتلة. يفتح السكوت عن هذه الأفعال الإرهابية الباب لكل قوة غاصبة أن تأتي بأفعال مماثلة، وربما أكثر قتلا وفتكا، وعندها سيكون استدعاء القانون الدولي والقانون الإنساني اللذين خرقت إسرائيل كل شرائعمها في حربها الإرهابية المجنونة على الفلسطينيين، وحالياً على اللبنانيين، مجرّد نكتة سخيفة لن تجد من يلتفت إليها!.