13 نوفمبر 2024
شوربة عدس
الفكاهة الأكثر انتشارا على مواقع التواصل الاجتماعي، مع بدء موسم الشتاء، ومع بوادر المطر التي نزلت في معظم البلاد العربية، هي فكاهة المرأة العربية التي تريد تدليل زوجها، فتسأله من باب الترغيب، حيث لا مجال للخيارات بالتأكيد: أطبخلك شوربة عدس تدفّي مصارينك؟
سمعت هذا السؤال كثيرا يجري على لسان أمي، رحمها الله. والعدس بالنسبة لكل الأمهات يبدو مقدسا، بل إنه الإشارة السرية بينهن التي لا تحتاج لنقاش أن موسم الشتاء قد بدأ، وتتعلّل الأمهات بأن العدس مجلبة للدفء، وخصوصا للأمعاء التي ترتعد بردا بفعل الجو، ولا يتبرع طبيب أمراض باطنية بإخبارهن أن درجة حرارة الجسم الداخلية لا تتغير، وثابتة ثبوت الليل والنهار. ولكن لا مجال لتغيير هذا الطقس السنوي، ولذلك تعود صغيرتي من الخارج، وقد تراهنت مع زميلاتها في الجامعة على أنني قد طهوت "شوربة العدس"، تزامنا مع أول قطرة مطر نزلت من السماء.
قالوا عن شوربة العدس إنها "لحمة الفقير"، ولا أحد حاول أن يعطي العدس حقه من ناحية قيمته الغذائية، وأنه يعادل اللحوم في قيمته وأكثر، بل إنه يساعد في المحافظة على الوزن، ويحمي من مرض السرطان الذي يصيب القولون خصوصا. وقد أجريتْ دراسات كثيرة في هذا المجال، فكشفت أن الفقراء الذين يخصّصون العدس طبقا يوميا على موائدهم أقل إصابة بالسرطان من الأثرياء الذين يتناولون اللحوم على موائدهم يوميا، كما أن العدس يرفع مناعة الجسم، وهذه هبة ربانية لفقراء الله في الأرض الذين لا يملكون ثمن الدواء، فيما يُحجم الأغنياء عن تناوله، لأنه يذكّرهم بأيام فقر مضت، أو يساويهم بفقراء يتعالون عليهم. ولذلك، لوحظ أيضا، والملاحظة هذه للدراسات التي استمرت سنوات، أن الفقراء أيضا الذين يتعاطون العدس قليلا ما يصابون بنزلات البرد في فصل الشتاء، علاوة على أجسامهم الممشوقة التي ينفق الأغنياء الأموال الطائلة، للحصول عليها بلا جدوى.
لله في خلقه شؤون. ولذلك شمل فقراءه في الأرض، برعايته وحفظه، وسخر لهم العدس بأشكاله وألوانه، وتفنّنت النساء في طبخه، وإضافة كل ما يرغب أطفالهن وأزواجهن بتناوله، بسبب رخص ثمنه، وسهولة إعداده.
يبدو أن العدس قد التصق بذاكرتي مع ذكريات كثيرة، منها أننا كنا نقدّس "فتّة العدس". وهي إضافة الخبز المحمّص والمقطع إلى شوربة العدس. وأذكر أن جدّتي لأبي، رحمها لله، لم تتوقف عن ترديد حادثةٍ شهيرةٍ، كلما طهونا العدس ومددْنا أيدينا للطبق الواسع الذي يحتويه: إن ابنتها قد وضعت مولودا حديثا، فعلق طفلها الأكبر متسائلا عن سبب عدم جلوس المولود مع باقي إخوته إلى مائدة الطعام، فردت الأم في حب وأمل: "لسّه بدو فتّة عدس"، والمقصود أنه يلزمه وقت طويل لكي يصبح قادرا على تناول الطعام بنفسه، لكن صغيرها الثاني أسرّها في نفسه، وانتهز أول مناسبة لوجود "فتّة العدس" في البيت، فدسّ ملعقة ملأى به في فم الوليد، وأنقذته الأم بأعجوبة، فدرجت هذه الحادثة بين أفراد العائلة كلما جلسنا أمام عدسنا المقدس.
بمزيد من التفكّر في ارتباط العدس بفصل الشتاء، نلاحظ أن البلاد العربية عامة تحرص على تخزين الطعام، وحين تنذرنا الأرصاد الجوية بمنخفضٍ جوّيٍ قادم تفرغ رفوف المحلات من محتوياتها، على العكس تماما من الأوروبيين الذين يبتاعون فقط ما يلزمهم ليومهم، والسبب غير المعلن لثقافة الشراء المبالغ فيها، واكتناز الطعام، وخصوصا العدس، وما رخص من أمثاله هي عقدة اللاأمان التي يعيشها العربي، للأسف، التي اشتدت وزادت في السنوات الأخيرة، ولتبقى طرق تخزين الخضروات التي تبتدعها النسوة العربيات تعبيرا عن هويةٍ قلقة، ولا عجب أن يطلق على الجوع في القرآن الكريم أنه من أنواع الابتلاء. ولكن يفوت الحكومات أن تستعد للشتاء، فتسبقها الأمهات، وتبقى حفر الصرف الصحي مفتوحةً، ليسقط بها الصغار والكبار، بعيدا عن رائحة العدس في بيوتهم التي كانت في انتظارهم.
سمعت هذا السؤال كثيرا يجري على لسان أمي، رحمها الله. والعدس بالنسبة لكل الأمهات يبدو مقدسا، بل إنه الإشارة السرية بينهن التي لا تحتاج لنقاش أن موسم الشتاء قد بدأ، وتتعلّل الأمهات بأن العدس مجلبة للدفء، وخصوصا للأمعاء التي ترتعد بردا بفعل الجو، ولا يتبرع طبيب أمراض باطنية بإخبارهن أن درجة حرارة الجسم الداخلية لا تتغير، وثابتة ثبوت الليل والنهار. ولكن لا مجال لتغيير هذا الطقس السنوي، ولذلك تعود صغيرتي من الخارج، وقد تراهنت مع زميلاتها في الجامعة على أنني قد طهوت "شوربة العدس"، تزامنا مع أول قطرة مطر نزلت من السماء.
قالوا عن شوربة العدس إنها "لحمة الفقير"، ولا أحد حاول أن يعطي العدس حقه من ناحية قيمته الغذائية، وأنه يعادل اللحوم في قيمته وأكثر، بل إنه يساعد في المحافظة على الوزن، ويحمي من مرض السرطان الذي يصيب القولون خصوصا. وقد أجريتْ دراسات كثيرة في هذا المجال، فكشفت أن الفقراء الذين يخصّصون العدس طبقا يوميا على موائدهم أقل إصابة بالسرطان من الأثرياء الذين يتناولون اللحوم على موائدهم يوميا، كما أن العدس يرفع مناعة الجسم، وهذه هبة ربانية لفقراء الله في الأرض الذين لا يملكون ثمن الدواء، فيما يُحجم الأغنياء عن تناوله، لأنه يذكّرهم بأيام فقر مضت، أو يساويهم بفقراء يتعالون عليهم. ولذلك، لوحظ أيضا، والملاحظة هذه للدراسات التي استمرت سنوات، أن الفقراء أيضا الذين يتعاطون العدس قليلا ما يصابون بنزلات البرد في فصل الشتاء، علاوة على أجسامهم الممشوقة التي ينفق الأغنياء الأموال الطائلة، للحصول عليها بلا جدوى.
لله في خلقه شؤون. ولذلك شمل فقراءه في الأرض، برعايته وحفظه، وسخر لهم العدس بأشكاله وألوانه، وتفنّنت النساء في طبخه، وإضافة كل ما يرغب أطفالهن وأزواجهن بتناوله، بسبب رخص ثمنه، وسهولة إعداده.
يبدو أن العدس قد التصق بذاكرتي مع ذكريات كثيرة، منها أننا كنا نقدّس "فتّة العدس". وهي إضافة الخبز المحمّص والمقطع إلى شوربة العدس. وأذكر أن جدّتي لأبي، رحمها لله، لم تتوقف عن ترديد حادثةٍ شهيرةٍ، كلما طهونا العدس ومددْنا أيدينا للطبق الواسع الذي يحتويه: إن ابنتها قد وضعت مولودا حديثا، فعلق طفلها الأكبر متسائلا عن سبب عدم جلوس المولود مع باقي إخوته إلى مائدة الطعام، فردت الأم في حب وأمل: "لسّه بدو فتّة عدس"، والمقصود أنه يلزمه وقت طويل لكي يصبح قادرا على تناول الطعام بنفسه، لكن صغيرها الثاني أسرّها في نفسه، وانتهز أول مناسبة لوجود "فتّة العدس" في البيت، فدسّ ملعقة ملأى به في فم الوليد، وأنقذته الأم بأعجوبة، فدرجت هذه الحادثة بين أفراد العائلة كلما جلسنا أمام عدسنا المقدس.
بمزيد من التفكّر في ارتباط العدس بفصل الشتاء، نلاحظ أن البلاد العربية عامة تحرص على تخزين الطعام، وحين تنذرنا الأرصاد الجوية بمنخفضٍ جوّيٍ قادم تفرغ رفوف المحلات من محتوياتها، على العكس تماما من الأوروبيين الذين يبتاعون فقط ما يلزمهم ليومهم، والسبب غير المعلن لثقافة الشراء المبالغ فيها، واكتناز الطعام، وخصوصا العدس، وما رخص من أمثاله هي عقدة اللاأمان التي يعيشها العربي، للأسف، التي اشتدت وزادت في السنوات الأخيرة، ولتبقى طرق تخزين الخضروات التي تبتدعها النسوة العربيات تعبيرا عن هويةٍ قلقة، ولا عجب أن يطلق على الجوع في القرآن الكريم أنه من أنواع الابتلاء. ولكن يفوت الحكومات أن تستعد للشتاء، فتسبقها الأمهات، وتبقى حفر الصرف الصحي مفتوحةً، ليسقط بها الصغار والكبار، بعيدا عن رائحة العدس في بيوتهم التي كانت في انتظارهم.