الآن لا أحد يضع خططاً مصرية للنهوض بمصر، ويبدو لي أننا عدنا إلى زمن الاستكانة والوداعة الجميل، حيث هناك خطة واحدة، وضعها رجل واحد، ويقوم بتنفيذها بدقة، يدافع عن خططه كما يفعل أي مصري مخلص، حتى لو هلكنا جميعاً بسببها.
هنا ستبدأ الفوضى التي بلا هدف، وبلا نمط، وبلا أي شكل من أشكال العقل. فبداية من ميدان الألف مسكن سترى جميع أنواع البضائع معروضة على الرصيف، أحذية جلدية ورياضية، ووصفات أعشاب طبية، وعربات لبيع الترمس والذرة المشوية والآيس كريم الرخيص.
ليست الرواية قصة عائلة مصرية صغيرة تواجه تأميم ممتلكاتها في الستينيات، بل هي إعلان ندم على ما سبق في الحياة، من خلال تداعيات سيّدة مسيحية تعذّبها الخطيئة في أسابيعها الأخيرة.
أخذ رشدي الحكاية الأصلية، تلك التي ربما أخذها غراس طفلاً من حكاية شعبية، أو من مزحة. أخذ رشدي الحكاية الخام، ونقلها مجرَّدة من كل التفاصيل، نقلها من قلب أوروبا إلى جنوب آسيا. ليحكي حكاية الهند كما حكى غراس حكاية ألمانيا.
كان ليكتب أجزاء أخرى من سيرته لو أن الموت لم يخطفه. لويس عوض، الذي تمر مئويته هذا العام، يستعيد سنوات التكوين الأولى من عشرينيات القرن الماضي حتى ثلاثينياته في سيرةٍ متماسكة لم تظهر فيها شهوة الاعتراف.
هناك الملايين غير آن فرانك قتلوا، في بلاد شتى ومن كل الأعمار وكل الانتماءات لم يذكرهم أحد، ليس لأنهم لم يكتبوا مذكراتهم، بل لأن جلاديهم عاشوا أبطالاً وماتوا آلهة.
وهكذا، فقد فهمي جنسيته المصرية طوعاً، وفقد آلافاً تعدُّ ثروة عند المصريين، ولم يحصل على حريته الكاملة بعد، ولا يزال متهماً بالعمالة والخيانة... وبين الصديقة في بيليز ومحمد فهمي، كثيرون ممن باتوا لا يشعرون بالانتماء إلى أي شيء.
بعد أربع سنوات أجد نفسي منساقاً إلى التفكير فيما بعد الموت، حجم الظلم الواقع علينا كان هائلاً، تحوَّلنا إلى جماعات واختفت الفردية تماماً، وصار الانتماء السياسي عاراً أو مجداً لصاحبه. وأحياناً سبباً لإطلاق الرصاص، وسبباً لتلقي اللعنات بعد الموت.
