أوراق لويس عوض الناقصة

07 مارس 2015
الكاتب في بورتريه لـ أنس عوض
+ الخط -

ربما تكون رواية لويس عوض الوحيدة، "العنقاء أو تاريخ حسن مفتاح"، دليلاً على تميّزه في حقول كتابية غير النقد الذي عُرف به. فلو كان سلك طريق الرواية بعد تجربته الأولى هذه، لكان لدينا، ربما، قامة أخرى تنافس نجيب محفوظ على مكانته.

حال عوض - الذي تمرّ مئويته هذا العام - في هذه الرواية، ينطبق على حاله في ديوانه الوحيد "بلوتولاند"، مثلما هو الأمر أيضاً في سيرته الذاتية، حيث نقع فيها على تفاصيل من حياته ومعاركه الأدبية والفكرية التي لم يتوقف عن خوضها طيلة تجربته.

كتب عوض "أوراق العمر" وهو في أواخر سنواته، ومن الواضح أنه كان يعتزم كتابة أجزاء أخرى منها، ولهذا سمَّى هذ الجزء منها "التكوين"، واقتصره على سرد سيرته حتى أواخر الثلاثينيات. لكن الموت لم يمهله، وتوفي عام 1990، بعد نشر السيرة بشهور.

ربما كانت "أوراق العمر" أكثر كتبه إمتاعاً وسلاسة. لا أذكر أنني مللتُ سطراً منها، على الرغم من سرد عوض لأحداث تاريخية بعيدة عنَّا، أو غير ذات أهمية كبيرة الآن. فهو يخصِّص عدة فصول للكلام عن الأحداث السياسية التي أثَّرت عليه في سنوات تكوينه، منذ أوائل العشرينيات وحتى أواخر الثلاثينيات.

يستهل عوض تلك الفصول بنقد ذكي لثلاثية نجيب محفوظ، فيقول إنه لا يراها تمثِّل ما حدث إبَّان ثورة 1919 كما يقول نقاد كثيرون. ونراه أميناً جداً، فيعترف أن محفوظ أكبر منه بثلاث سنوات فعلاً، وهو ما يعني أنه كان في ذلك الوقت أكثر وعياً منه، وكان يعيش في القاهرة بينما عوض يعيش في المنيا البعيدة عن قلب الثورة، وهو عامل آخر يرجِّح كفة محفوظ. لكنه يؤكد، رغم ذلك، أن الثلاثية ليست خير مثال على ثورة 1919، وربما أغضب هذا الكلام محفوظ نفسه.

قد تبدو هذه الفصول التاريخية أقل فصول الكتاب أهمية، وهي كذلك بالفعل، لكنها ضرورية لكي نفهم كيف تكوَّن عوض. الأهم منها بالطبع ما كتبه صاحب "تاريخ الفكر المصري الحديث" عن والديه وإخوته وأقاربه، في ما يمكن تسميته بفصول العائلة.

عندما قرأت فصول العائلة للمرة الأولى، ظننت أنها قد تكون من أشجع السير الذاتية التي قرأتها بالعربية. بالطبع، حرْصُ عوض البالغ على أن يكون سلساً وبليغاً في الآن نفسه، أدى إلى تضخيم كل ما كتب، وصار عمله أشبه بالاعترافات، رغم أن لا شيء يعيبه هو أو أي من المذكورة أسماؤهم في الكتاب. لكن، وكما هو الحال مع السير الذاتية، يظل لأقل خطأ ترتكبه شخصيةٌ حقيقة وقعٌ هائل على القارئ.

يعدِّد الكاتب في إحدى فقرات فصول العائلة خصائص الذكور من آل عوض، فيقول إنهم لا يكذبون أبداً، ولا يقيمون وزنًا للمال، ويتمتعون بـ "غباء اجتماعي" نادر. ويبدو أن كل تلك الصفات صحيحة، نراها متمثلة بوضوح في الكاتب نفسه. فهو يحكي بصدق وبجرأة حوادث وكلاماً صدر من أفراد عائلته، قد يرى بعضهم أنه مما لا يُقال ولا يُعلن.

لكن عوض لم يبدُ وكأنه ينتقم من هذا أو ذاك. كذلك، لم تظهر عليه شهوة الاعتراف والتطهر أبداً، بل كان متماسكاً، وربما لم يذكر ما يعيبه هو شخصياً، ما عدا حكاية تجربته الجنسية الأولى مع عاهرة في مدينة بني سويف.

يذكر عوض أن أول مرَّة انتبه إلى ظلم السلطة كانت حين سمع أصوات المحبوسين في بوليس بندر المنيا ليلاً. كانوا يصرخون من شدَّة التعذيب كما أخبره والده، وربما كان هذا الحادث مؤثراً إلى درجة كبيرة فيه، فنراه، بعد ذلك، كارهاً للإنجليز المحتلين، راغباً في الخلاص منهم في أسرع وقت، وكارهاً للباشاوات والملك والملكية، رغم ثقافته الإنجليزية النخبوية ودراسته في بريطانيا بعد ذلك. وقد تساءلتُ كثيراً عمَّا كان سيكتبه لو كان امتد به العمر وكتب عن شهور اعتقاله في عهد عبد الناصر.

المساهمون