"أفضل مئة كتاب": تنويعاتٌ على المركزية الغربية

19 يوليو 2024
الكاتب النرويجي يون فوسه خلال محاضرة له بـ"الأكاديمية السويدية" في ستوكهولم، 2023 (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- أصدرت "نيويورك تايمز" قائمة "أفضل مئة كتاب لهذا القرن"، اختيرت من قبل 503 كتاب ونقاد وقراء، وركزت على الروايات بنسبة 76%.
- تضمنت القائمة أسماء معروفة في الأدب العالمي، لكنها أغفلت العديد من الكتاب الحائزين على جوائز نوبل وأسماء بارزة أخرى، مع وجود عمل شعري واحد فقط.
- تعكس القائمة هيمنة ثقافية ومعرفية على الأدب العالمي، مبرزة أزمة الفكر والثقافة في الغرب، وتهميش الأدب من الثقافات الأخرى.

منذ أيام، أصدرت صحيفة "نيويورك تايمز" لائحة تضمّ "أفضل مئة كتاب لهذا القرن"، في محاولة من الجريدة لتأسيس مرجعية و"تقليد أدبي عالمي" جديد للقرن الحادي والعشرين. لم تميّز اللائحة بين جنس الكتب المُختارة. بدا ثقل الرواية ساحقاً في اللائحة، حيث بلغ عددها ستّاً وسبعين روايةً، مقارنة مع اثنتين وعشرين دراسة، ومجموعة شعرية وحيدة، إضافة إلى رواية مصوّرة.

آلية العمل كانت، كما جاء في الملحق الأدبي للصحيفة، موضوعية؛ فقد دعت الصحيفة خبراء وكتّاباً وقرّاءً لاختيار أفضل مئة كتاب نُشرت منذ كانون الأوّل/ يناير 2000، وكانت النتيجة مشاركة 503 كتاب ونقّاد، إضافة إلى محرّري الجريدة وبعض القرّاء المعروفين، في لعبة أدبية تعكس سطحية خياراتهم بقدر ما تعكس سطحية فهمَ الصحيفة للأدب في القرن الحالي.

من بين الكتّاب والنقاد والقرّاء الذين أرسلوا مقترحاتهم الأميركيون ستيفين كينغ، وجيمس باترسون، والممثّلة سارة جيسيكا باركر، والمؤلِّف النرويجي كارل أوفه كناوسغارد، والروائية الكورية الجنوبية مين جين لي، والروائي الجمايكي مارلون جيمس، إضافة إلى العديد غيرهم. وكانت النتيجة النهائية نشر لائحة من مئة كتاب صُنّفت أنّها أفضل الكتب في القرن الحادي والعشرين. وهنا يجدر التوضيح أنّ ما اختارته اللجنة اقتصر على ما هو مكتوب باللغة الإنكليزية أو مُترجم إليها. وفي هذا ما قد يفسّر غياب الكثير من الكتب.

تعيد القائمة طرح أسئلة حول مفهوم الأدب العالمي

غابت عن اللائحة أسماء بارزة في الأدب العالمي، ومن بينها أسماء مكرّسة في الجوائز العالمية، سواء من رحل عن عالمنا أو من لا يزال حيّاً، مثل: بول أوستر، ومارغريت آتوود، وسلمان رشدي، وهوراكي موراكامي، وريتشارد فورد، وخوسيه ساراماغو. إضافة إلى ذلك غابت أسماء حازت "جائزة نوبل للآداب"، مثل: ماريو بارغس يوسا، وأولغا توكارتشوك، والجنوب أفريقي جون ماكسويل كوتزي وكثيرين غيرهم.

ولم تضمّ القائمة أيّ عنوان لكاتب أو شاعر أو روائي عربي مُترجم إلى الإنكليزية، حتى الأسماء العربية البارزة، ما بقي منها حياً أو من غادرنا. علماً أن اللائحة ضمت كتّاباً من المكسيك والأرجنتين وإسبانيا وبيرو ونيجيريا والهند وباكستان وإيران والدومينيكان وفرنسا وأميركا وبريطانيا وأيرلندا وهولندا واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وبيلاروسيا، كما غابت الأسماء العربية، التي تُحسب على الثقافة العربية، وتعيش في الغرب وتكتب بلغات أجنبية. الاسم العربي الوحيد الذي ظهر في القائمة كان هشام مطر، وهو كاتب بريطاني- ليبي وُلد في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1970، وقد جاءت روايته "عودة" (2016) في المرتبة 89.

كانت المرتبة الأُولى للكاتبة الإيطالية إيلينا فيرانتي عن عملها الروائي "الصديقة الرائعة" (2012)؛ وهو الجزء الأوّل من ثلاثية "صديقتان". في المرتبة الثانية جاء كتاب "دفء الشموس الأُخرى" (2010) للصحافية والكاتبة الأميركية إيزابيل ويلكرسون؛ والذي يتناول الهجرات الكبرى التي عزّزت نموّ الولايات المتّحدة، بحثاً عن الحلم الأميركي. المرتبة الثالثة كانت لرواية "في بلاط الذئاب" (2009) للكاتبة البريطانية هيلاري مانتل.

ولم تخلُ اللائحة من أسماء لها وزنها في الأدب العالمي، على الرغم من وجودها في مراتب متأخّرة، مثل الفرنسية آني إرنو في المرتبة 37 عن كتابها "السنوات" (2018)، والكندية أليس مونرو في المرتبة 53 عن كتاب "هروب" (2004)، والنرويجي يون فوسه في المرتبة 78 عن كتاب "علم التنقيط" (2022)، والكاتب الإسباني روبرتو بولانيو في المرتبة السادسة عن كتاب "2666" (2008).

تزعم هذه اللائحة محاولة تأسيس تقليدٍ أدبي للقرن الحادي والعشرين. ومن الواضح، استناداً إلى الخيارات التي وضعها النقّاد والكتّاب والقرّاء المشاركون في وضع اللائحة، أنّ هذا التقليد يختلف تماماً عن ذلك الذي أطّره هارولد بلوم في كتابه "التقليد الأدبي الغربي"، حيث دافع عن معيار عدم التعامل مع الأدب بما هو وثيقة اجتماعية أو تقييمه لمضمونه السياسي أو التاريخي، معتمداً بشكل أساسي على المعايير الجمالية؛ فالأدب، وفقاً له أكثر من مجرّد أداة لفهم العالم. إنه سلاح للمعرفة الفردية.

من الطبيعي أن تتغيّر الذائقة والمعايير الأدبية مع تغيّر الزمن الذي نعيش فيه، لا سيما في ظلّ هذا العصر الاستهلاكي الرقمي. يعود ذلك بالدرجة الأُولى إلى عملية تقييم الأنواع الأدبية، فكلّ حقبة تميل إلى نوع أو جنس أدبي أكثر من آخر. ولكن أن تحتوي هذه اللائحة على عمل شعري واحد لا غير يثير الكثير من الأسئلة حول اللجنة نفسها، وحول صورة الأدب العالمي ووضع القراءة والكتابة والنقد بشكل عام في العالم. كما أنها تعيد طرح أسئلة حول مفهوم الأدب العالمي والتقليد والمرجعية الأدبية والقيمة الجمالية والكتب الأكثر مبيعاً والعلاقة بين القراءة والكتابة والنقد، وموت العمل الإبداعي واستمراريته.

بمراجعة بسيطة للثقافة الغربية سنرى أنّ الشعر هو حجر أساس هذه الثقافة. ولعلّ روح دانتي وهوميروس، تمثيلاً لا حصراً، لن تكون هانئة بمعرفة وجود كتاب شعري وحيد لما يُزعم أن يكون "تقليداً أدبياً" للقرن الحادي والعشرين. لهذا يبدو غير مفهوم أن تقوم اللجنة باختيار عمل شعري وحيد يمثّل القرن الحادي والعشرين، وفيه ما يدلّ على جهل اللجنة بثقافتها نفسها، قبل جهلها بالأدب العالمي. فهل تستحق مثل هذه اللجنة أن تكون حارسة التقليد الأدبي العالمي؟ وإلى أي درجة ستُؤخذ هذه اللائحة، وتبعاً هذا التقليد، على محمل الجد في العالم؟

تتغيّر الذائقة والمعايير الأدبية مع تغيّر الزمن الذي نعيش فيه

تُعبّر خيارات اللجنة والصحيفة أيضاً، بعيداً عن كل ما يمكن أن يبرّر اللائحة، وأنّها موجّهة إلى قرّاء الجريدة الغربيّين وغيرها من التبريرات، عن محاولة للهيمنة الثقافية -المعرفية على الأدب العالمي، وهي محاولة تستند إلى بنية ثقافية مركزية تريد أن تهيمن، لعوامل كثيرة اقتصادية واجتماعية وسياسية وأيديولوجية وتسويقية، على طَرق إنتاج الأدب، ليس في الغرب وحده، بل في العالَم أيضاً.

جوهرياً، لا تختلف هذه الهيمنة المعرفية عن شبيهتها السياسية ذات الطابع الإمبراطوري والتي تتمثّل في سياسة الولايات المتّحدة الأميركية واستراتيجيتها. إنّها بنية تقوم على أساس الاستعمال المؤسّسي- الوظيفي للأدب، بحيث تحوّله إلى سلعة أو ركام من البضائع التي تتبع أهواء السوق والأيديولوجيا والأكثر مبيعاً. أمّا النقاد الذي قاموا بِمثل هذه الخيارات فهم "تجّار" هذا السوق ومراقبون مؤتلفون مع الغاية الغربية - الأميركية في تحويل العالم إلى سوق يديره المركز، وليس في خياراتهم أو كتبهم أو وسائل إعلامهم ما يتعارض حقّاً مع عملية المسخ هذه. وإلّا كيف يمكن فهم غياب الحضور الأدبي العربي عن هذه اللائحة، وما مبرّراته؟! هل هو جهل اللجنة بالأدب العربي، لا نظن.

تُفصح اللائحة التي تريد أن تعمّمها الصحيفة عن أزمة الفكر والثقافة التي يعيشها الغرب. في الوقت الذي يتلوّث فيه الأدب بأنواع الأيديولوجيات الزائفة، والتي شعارها "الصحيح سياسياً"، ثمّة حاجة ماسّة لحركة نقد ترجّ "السوق" وأهواءها، حركة تضع الأدب على مستوى الحدوس الكشفية والمعرفية الكبرى، مستوى القيم الجمالية واللغة العالية التي تزلزل وترجّ اللغة السائدة، مستوى توسيع الحدود، لا مستوى الأداء والوظيفة. حركة نقد تنظر إلى الأدب بعين بعين المساواة لا بعين الفوقية والعنصرية والتهميش. دون ذلك سيكون النقد تنويعاً آخر على الثقافة الأدبية السائدة التي تكرّسها هذه المركزية، وستكون النتيجة، بالتالي، كارثية على الأدب العالمي، لأنّها ستبقى تحت حراسة تجّار الكتب العنصريين والفوقيّين.

المساهمون