غزة بعد الصمود وقبل الإعمار

14 مايو 2015
+ الخط -
بعد توقف الحرب التي شنتها دولة الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة في خريف عام 2012، ومع اللحظات الأولى لبدء سريان التهدئة بعد ثمانية أيام من القصف الإسرائيلي المستمر، خرج أهالي قطاع غزة إلى الشوارع للاحتفال بتوقف العدوان، معبرين عن دعمهم وفخرهم بقوى المقاومة، التي استطاعت للمرة الأولى قصف أكبر المدن الاستيطانية الإسرائيلية "تل أبيب"، ومؤكدين على اصطفافهم خلف المقاومة الفلسطينية، الأمر الذي دفع جيش الاحتلال الإسرائيلي آنذاك للتراجع عن العملية البرية، إضافة لتقدم أداء الأجنحة العسكرية في نواحٍ عدة منها المدفعية والراجمات ومدى الصواريخ وصد القوات الخاصة، التي حاولت أن تتسلل في أكثر من مكان حدودي في قطاع غزة. في اليوم التالي، خرج أهالي بلدة خزاعة الحدودية، الواقعة شرق خان يونس، ووصلوا لأراضٍ لم يصلوها منذ السنوات الأولى للانتفاضة الثانية، ولاحقاً، استطاعوا العمل فيها وزراعتها بموجب اتفاق التهدئة الذي وقع في القاهرة آنذاك برعاية مصرية، ليشعروا بإنجاز واضح حققته المقاومة على مستوى حياتهم اليومية.

عكس ما سبق، ثمانية شهور مرت على أهالي قطاع غزة، منذ الإعلان عن وقف إطلاق النار الذي تبع الحرب الإسرائيلية الشاملة على قطاع غزة صيف 2014، ولم يشعروا بأي تغير إيجابي ملموس، بعد صمودهم ودعمهم المقاومة الفلسطينية لأكثر من خمسين يوماً من القتال.
ورغم الوعود الإيجابية لأهالي قطاع غزة من المستوى السياسي الذي فاوض على وقف إطلاق النار، لم يتحقق شيء تقريباً نتيجة ظروف إقليمية وداخلية معروفة للجميع. ومع إيمان غالبية الغزاويين بعدم التزام دولة الاحتلال بتعهداتها من جهة، وتشككهم في حرص الوفد الفلسطيني المفاوض والوسيط المصري على مصالح أهالي قطاع غزة والمقاومة الفلسطينية من جهة ثانية، إلا أنهم لم يفقدوا الأمل في أن تحقق الجولة الأخرى للمفاوضات، التي قررت بعد شهر من وقف إطلاق النار، متطلباتهم، لكن تخاذل السلطة الفلسطينية والوسيط المصري في المفاوضات مع دولة الاحتلال، قوّض ما اعتبره الغزاويون نصراً لهم وللمقاومة، وتركهم ضحايا للحرب وآثارها المستمرة.

إحصائيات وزارة الأشغال في غزة تشير إلى أن الآلة العسكرية الإسرائيلية دمرت عشرين ألف وحدة سكنية تدميرا كاملا، أو عرّضتها لضرر بشكل كبير، ودمّرتْ أربعين ألف وحدة تدميراً جزئياً، أي ما يلزمه 1.5 مليون طن إسمنت، و227 ألف طن حديد، وخمسة ملايين طن حصى، وبحسب الكميات التي يسمح الاحتلال لها بالعبور تحتاج غزة إلى سنوات أو ربما إلى عقود لإنهاء عملية الإعمار.

لعل وصف عاموس غلعاد، رئيس الدائرة السياسية والأمنية بوزارة الدفاع الإسرائيلية، مؤتمر إعادة إعمار غزة بأنه "حفلة تنكرية" هو الوصف الأوقع لما حدث في مؤتمر القاهرة، باعتبار أن دولة الاحتلال هي التي تحدد في النهاية كيف تدخل الأموال ومواد البناء إلى غزة وما حجم الكميات التي يسمح لها بالدخول بحجة التأكد من أن المواد لن تستخدم في ترميم وإنشاء أنفاق هجومية تهدد أمن الاحتلال الإسرائيلي.

صار من الواضح أن الـ 5.4 مليارات دولار، التي تبرعت بها الدول العربية والمجتمع الدولي لإعادة إعمار غزة، هي أموال مؤجلة إلى حين حدوث توافق كامل بين السلطة الفلسطينية في رام الله و حركة حماس، وبالرغم من أن حكومة التوافق الفلسطينية، برئاسة رامي الحمد لله، تعتبر حكومة توافقية وهي المسؤولة عن إعادة الإعمار وإيجاد الطرق المطلوبة لإدخال الأموال من المتبرعين للقطاع، إلا أنها إلى الآن لم تنجح في إنجاز شيء تقريبا نظراً لمشاكل سياسية بين حركتي فتح وحماس، تتعلق بالسيطرة على معابر غزة إضافة لدمج موظفي حكومة غزة في حكومة التوافق وملفات أخرى.

من جانبها، تبيع وكالة غوث وتشغيل اللاجئين،" الأونروا"، كميات قليلة من مواد البناء لأهالي القطاع تكفي بالكاد لترميم بسيط، وقد تحتاج عملية الإعمار لعدة سنوات في استمرارها على هذا النحو، كما حدث بعد حرب 2008-2009 حيث أُعيد بناء جزء من المنازل في عام 2011 و2012 لتدمر في الحرب الأخيرة مرة أخرى، لذلك فإن إعادة الإعمار ليس بالحل النهائي لأهالي القطاع، على اعتبار أن الجبهة ساخنة وقد تنفجر في أية لحظة يكون فيها أحد الطرفين راغبا في المواجهة.

جدير بالذكر أن حركة حركة حماس والفصائل الأخرى حاولت تعزيز صمود الأهالي في كل المناطق، وخصوصاً المناطق الحدودية، ولكن بشكل متواضع للغاية، إلا أن الظروف المعيشية لأهالي القطاع يلزمها إنعاش بشكل أكبر وأكثر استمرارية من المساعدات الطارئة، كما أن أهالي المناطق المدمرة وذوي الشهداء الذين سجدوا فرحاً بخطف الجندي، شاؤول آرون، أمام ثلاجات الموتى في مجمع الشفاء الطبي، في حاجة لتحسن على المستوى المعيشي كافٍ لأن يكونوا بالروح نفسها في حال اندلاع مواجهة أخرى.

بعد توقف الحرب الأخيرة في صيف 2014 عاد أهالي بلدة خزاعة مرة أخرى بنشوة نصر عسكري ونشوة صمودهم وتضحياتهم، لينصبوا خيامهم فوق بيوتهم المهدمة، ينتظرون إعادة إعمار ويرفضون أن يستمروا في العيش تحت مظلة الأمم المتحدة، في مدارس تحولت إلى ملاجئ. هذه العودة لأهالي خزاعة كانت بمثابة صمود آخر بعد الصمود تحت قذيفة كل أربعين ثانية لعدة أيام، وإلى أن يتم الإعمار سيبقى أهالي خزاعة يقللون أضرار الحرب الأخيرة، وبحسب التجارب السابقة يبدو أنهم على استعداد بديهي لحضن المقاومة مرة أخرى في مواجهات مستقبلية.


(فلسطين)
المساهمون