مغاربيو فرنسا: عشقٌ من جانب واحد

04 يناير 2015
حذر فرنسي في المناطق السياحية(فرانس برس)
+ الخط -
الجميع متفق، دولُ المغرب العربي ومُواطنوها المتواجدون على التراب الفرنسي، على وجود قصة عشق بين الطرفين، ولكن مظاهر العشق تسبب كثيرا من الشجن، لأن الأمر يتعلق، ببساطة، بعشق من طرف واحد، حب غير متكافئ ومليء بالجراح.
وإذا كان التواجد المغاربي (المغاربي أي من دول المغرب العربي، وهو تعبير غير مفهوم بشكل واسع في الشرق العربي)، فعلا وازنا جدا، بحيث يجعل العلاقات بين الطرفين أكثر من ضرورية، فلأنه لا يمكن التمييز بين من هم مهاجرون ومن هم فرنسيون من أصول مغاربية، خصوصا أننا نعيش الجيل الثالث للهجرة، الذي يتطلع اليوم إلى مشاركة سياسية أكبر وصوت أقوى
 لا يغيب عن البال أن الملك المغربي الراحل، الحسن الثاني، كان يعارض اندماج مواطنيه 
(رعاياه المغاربة) في المجتمعات الغربية. وقد عبر عن الأمر في خطاب رسمي شهير، إذ كان يرى فيهم مجرد ضيوف على بلدان غريبة، وبالتالي فإن تواجدهم فيها مؤقت، لأن وطنهم الأوحد هو المغرب، ولم يكن يرى النتائج "الثورية" لسياسة جمع الشمل العائلي التي أرساها الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان لغاية في نفس يعقوب، والتي أدت إلى ولادة شعور لدى أبناء الهجرة الأولى والثانية بأن فرنسا هي بلدهم الحقيقي، إذ إن أغلبهم لا يعرف غيرها. 
لكن الهجرات المغاربية إلى فرنسا ليست متشابهة، إذ ترتبط بالعلاقات بين فرنسا وكل بلد مغاربي على حدة، إضافة إلى أن كثافتها تختلف من بلد إلى آخر. وتكاد التجربتان المغربية والتونسية تتشابهان من حيث كون البلدين احتُلّا في فترة متقاربة، ثم حصلا على استقلالهما السياسي في فترة متقاربة أيضاً، في حين أن الجزائر خضعت لما هو أخطر من مجرد الاستعمار. 
وكان المخيال الفرنسي، في فترة ما من تاريخ فرنسا، يتصور أن الجزائر ستظل فرنسية إلى الأبد (وقد عبّر الصحافي الفرنسي العنصري إيريك زمور مؤخرا عن هذا الأمر، حين تحدث عن ترحيل أكثر من مليون فرنسي من الجزائر، مقترحا ترحيلا معكوسا لملايين العرب المسلمين من فرنسا إلى بلدانهم "الأصلية"، على الرغم من أن معظمهم لا يَعرف غير فرنسا وطنا له). 
وقد لعب احتلال فرنسا المبكر للجزائر (1830) دورا كبيرا في تغيير العلاقات بين سكان الجزائر وبلد الاحتلال. ومن هنا فالجزائريون إلى حدود سنة 1962 كانوا فرنسيين، كما أن اتفاقات بين البلدين أتاحت لكل جزائري يولد قبل سنة 1962 الحق في طلب الحصول على الجنسية الفرنسية. وأما حالة موريتانيا، بلد المليون شاعر كما كانت تُوصف يوما ما، فهي مختلفة، من حيث كون سكانها الحاليين، لا يصلون إلى أربعة ملايين، في حين أن عدد مواطنيها في فرنسا هو في حدود 13 ألف شخص. أما البلد الخامس، ليبيا، فلم يكن مرتبطا تاريخيا بفرنسا، بسبب خضوعه للاحتلال الإيطالي، كما أن حكم معمر القذافي الانقلابي الطويل غيّر من مسار تاريخ البلد وتوجهاته وتحالفاته وأولويات شعبه. فكانت الجالية الليبية في فرنسا، وغير فرنسا، معظمها إما من الطلبة والتجار أو من مُخبري اللجان الثورية، الذين عاثوا في الأرض فسادا. 
ظهر المجن 
لا يمكن توصيف علاقة الدول المغاربية بجاليتها في فرنسا بشكل نهائي وقاطع، لأن الهجرات تغيرت، ولأن مراحل هؤلاء الناس المنحدرين من شمال أفريقيا عرفت تحولات كبيرة، سياسية وديموغرافية واقتصادية وثقافية وعاطفية وغيرها. 
فإذا كان المهاجرون الأوائل، والقصد من أتى بعد تفكيك الاستعمار الفرنسي في بلدان المغرب العربي، هم الذين استفادوا من "الثلاثين سنة المجيدة" في فرنسا، بعد الحرب الكونية الثانية، حيث كانت البطالة شبه منعدمة، وكانت نيتهم المبدئية البقاء بضع سنين في فرنسا ثم العودة النهائية بعد توفير بعض الأموال، وبالفعل كانوا يرسلون معظم مرتباتهم إلى بلدانهم، وكانت حكوماتهم تنعم بهذا الرافد الاقتصادي الكبير، الذي يغطي نسبا كبيرة من ميزانياتها، والذي لم تكن تحلم به. حينها لم يكن يهم هذه الحكومات الأوضاع الرهيبة التي كان يعيشها أبناؤها في فرنسا. كانت الأموال وتأمين تدفقها هما الشغل الشاغل، فتم افتتاح بنوك وطنية، داخل القنصليات ذاتها، لتسهيل جلب هذه الأموال، خشية تفكير أصحابها في تبديدها في فرنسا. 
كان العامل المهاجر، حينها، بقرة حلوباً وطيّعا، خصوصا أن أغلب المهاجرين كانوا أميين، فكانوا يعزفون عن أي نشاط سياسي، في وقت كانت دولهم تعيش تصفيات سياسية دموية، إن في الجزائر أو تونس أو المغرب. وبدلا من أن تستنفر السفارات والقنصليات موظفيها لمرافقة العمال المهاجرين، جهّزت جيوشا من الوداديات والمخبرين لرصد كل نشاط سياسي معارض أو نقدي ووأده في المهد. 
تحولات جذرية 
لكن "الثلاثين سنة المجيدة" وصلت إلى نهايتها، وبدأت الأزمة الاقتصادية في الظهور، مع أشكال جديدة من البطالة، ساهم العرب "المتحدون"، للمرة الأولى والأخيرة، في تعميقها باستخدام سلاح النفط سنة 1973. وجاء الرئيس الفرنسي الليبرالي فاليري جيسكار ديستان، وتفتقت عبقريته السياسية عن فكرة السماح للمهاجرين باستجلاب عائلاتهم. كانت النية هي أن ينفق هؤلاء المهاجرون أموالهم في فرنسا، بدل إرسالها إلى بلدانهم الأصلية، مع كل ما تسببه من خسائر للحزينة الفرنسية. 
هنا قرر الكثير من هؤلاء المهاجرين جلب عائلاتهم إلى فرنسا. صحيح أن البعض منهم رفض ذلك، لأسباب دينية وثقافية وغيرها، ولم يعودوا إلى بلدانهم كما كانوا يحلمون، يوما، وأصبحوا يسكنون في مساكن جماعية ومكتظة لا تتوفر على أدنى وسائل الصحة والتدفئة، ويعانون من مشاكل جنسية مزمنة، دفعت الروائي المغربي الكبير، الطاهر بن جلون، إلى أن يكرس عنهم كتابا لافتا وهو "أقصى درجات العزلة"، ولكن معظمهم فعل ذلك، خصوصا مع مجيء الرئيس فرانسوا ميتران للحكم وتشجيعه للولادات (من خلال دفع أموال مجزية للولادات الجديدة) في بلد كان يعاني من شيخوخة، مقارنة مع ألمانيا وبريطانيا. 
كان الأمر صعبا على دول المغرب العربي، خصوصا على تونس والمغرب، اللذين كانت أموال هؤلاء تمثل قسما كبيرا من ميزانيتيهما. إذ بدأت التحويلات المالية تقل، وهو ما خلق تصدعات كبيرة في اقتصادات دول المغرب العربي. 
هنا اكتشفت هذه الحكومات أهمية أبنائها الذين لم يكن، خلال عقود، يسمع شكاواهم وهمومهم أحدٌ. فبدأت هذه الدول تتنافس في إنشاء وزارات للهجرة، وأخرى في تأسيس مجلس الجاليات بالخارج، وثالثة في تكريس بعض المقاعد لنواب برلمانيين عن الخارج. كل هذا ظاهِرُهُ خدمة المهاجرين وأبنائهم وباطنه استجلاب الأموال. بدأ الحديث، فجأة، عن تشجيع الاستثمارات وتغيير القوانين المتعلقة بالمهاجرين، وجعلها مرنة إلى أقصى الحدود، ومحاربة البيروقراطية القاتلة. 
لكن مع الجيل الثاني للهجرة، الذي أعلن ظهوره المنظم والمدوي، مع وصول ميتران للحكم، من خلال "المسيرة الكبرى من أجل المساواة وضد العنصرية"، سنة 1983، شهد تشَكُّلَ علامة فارقة في تاريخ الهجرات العربية إلى فرنسا. فقد أراد هؤلاء الشباب أن يكونوا فرنسيين "متساوين"، وليسوا "مجرد أبناء مهاجرين". 
لقد شبّوا، فعلا، عن الطوق. لم يعودوا ينتظرون شيئا من دول المغرب العربي، لأنهم، ببساطة، فرنسيون، ولا يعرفون من وطن غير فرنسا. ثمة ارتباطات عاطفية تاريخية ودينية لا يمكن نكرانها، بينهم وبين أوطان آبائهم وأجدادهم، ولكنهم مرتبطون، الآن، باقتصاد وثقافة فرنسا وتاريخها ومستقبلها، بل ومرتبطون بـ"المواطنة" في فرنسا. 
خارج الحساب 
اكتشفت اقتصادات بلدان المغرب العربي أن جيلا بأكمله خارج الحساب، وأن أقصى ما تقدر عليه هو الانفتاح عليه وتشجيعه على الاستثمار، مثلما تفعل دول أخرى مع المنحدرين منها في دول أخرى (إيرلندا مع الأميركيين من أصول إيرلندية، وإيطاليا مع إيطاليي أميركا، مثلا). 
وإذا كان الجيل الثاني على هذه الحالة، فالجيل الثالث أصبح أكثر ابتعادا عن بلدان الأجداد، اقتصاديا، على الأقل (لم يعد له ما ينتظره من هذه الدول، إذ أحيانا يسافر إلى تركيا واليونان ومالطا بدل التعرف على مراكش والحمامات). أما عاطفيا ودينيا (تشير إحصاءات فرنسية إلى أن درجة التدين تصل لدى المغاربيين إلى 73 في المائة، تقريبا) وتاريخيا، فلا تزال الروابط قوية، إذ تغذيها العنصرية والإسلاموفوبيا المنتشرة في أوروبا، كما أن الجرائم والمحرقات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين تشعره بأصوله وجذوره (جميع المراقبين، من عرب وأجانب، لاحظوا كيف عبّر أبناء الجيل الثالث عن تعلقه بالدفاع عن فلسطينيي غزة، بشكل لم يكن يتصوره أحدٌ، لدرجة أن الحزب الاشتراكي خاف من عزوف هذه الشرائح التي تصوت له، تلقائيا، من ابتعادها عنه، فقرر الاعتراف بدولة فلسطين في البرلمان ومجلس الشيوخ).
المساهمون