رفح المدمرة... شهادات من مدينة أشباح غادرها مئات الآلاف

18 يوليو 2024
كانت رفح مكتظة بالنازحين قبل الاجتياح الإسرائيلي (جهاد الشرافي/الأناضول)
+ الخط -
اظهر الملخص
- **الوضع الحالي في رفح:** تستمر العملية العسكرية الإسرائيلية على رفح للشهر الثالث، مما أدى إلى دمار شبه كلي للأحياء والميادين الشهيرة، وتوسيع الطرق المؤدية إلى محور صلاح الدين وتدمير أجزاء من معبر رفح البري، مما تسبب في نزوح كبير للسكان.

- **الأوضاع الإنسانية:** يعيش نحو 100 ألف فلسطيني في ظروف صعبة مع تدمير كبير للمنازل والبنية التحتية، ونقص حاد في الغذاء والماء، واستهداف مستمر للمدنيين، مما أدى إلى مجازر في مدارس النازحين.

- **الخدمات الصحية:** دمر الاحتلال جميع المراكز الصحية، ولم يتبق سوى نقطة طبية واحدة تتولى حالات الطوارئ. المجتمع الدولي خذل سكان رفح، مما دفع بعض العائلات للبقاء رغم الدمار.

تتواصل "العملية العسكرية" الإسرائيلية على مدينة رفح في أقصى جنوب قطاع غزة للشهر الثالث على التوالي، بينما يؤكد سكان ونازحون من المدينة الصغيرة، التي كانت تؤوي قبل عدة أشهر أكثر من مليون فلسطيني، تغيراً كبيراً في ملامح أحيائها وشوارعها، خصوصاً الأحياء الجنوبية، ودماراً شبه كلي لميادينها الأشهر مثل "دوار النجمة" و"دوار العودة".
وكشفت صور نشرها الإعلام العبري عن توسيع جيش الاحتلال الطرق المؤدية إلى محور صلاح الدين "فلادلفيا" على طول الحدود مع مصر، والعمل على توسيع منطقة المحور، فضلاً عن تدمير الأجزاء الشمالية من معبر رفح البري للسماح بدخول الآليات العسكرية، وكذا تدمير أعداد من المنازل المحيطة بالمعبر.
وشهدت المدينة موجات نزوح باتجاه الشمال، خصوصاً بعد تدمير مخيمي الشابورة ويبنا، وأجزاء من مخيم رفح الغربي، وكلها كانت ضمن نطاق مخيم رفح الكبير الذي توسع على مدار السنوات التي تلت النكبة الفلسطينية في عام 1948، حتى أصبح يطلق على مناطقه الكثير أسماء البلدات التي هجر أهلها إليه، أو أسماء العائلات المهجرة.

يكرر جيش الاحتلال استهداف المتبقين في رفح لإجبارهم على النزوح

ولا توجد إحصائية دقيقة توضح عدد الموجودين حالياً في رفح، لكن المكتب الإعلامي الحكومي يقدر بقاء نحو 100 ألف فلسطيني في المدينة، بعضهم في المناطق القريبة من منطقة المواصي الواقعة شمال غرب رفح، وآخرين في مناطق غرب وسط المدينة، وجميعهم من العائلات التي لم تجد مكاناً للنزوح في ظل امتلاء منطقة المواصي ومناطق وسط القطاع بالنازحين.
وتشير صور أقمار اصطناعية وتقييمات المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، الصادرة في بداية شهر يوليو/تموز الحالي، إلى تدمير أكثر من 60% من منازل المدينة، ونحو 70% من البنية التحتية فيها، بما فيها الشوارع وشبكات الصرف الصحي. وتتركز القوة التدميرية في أحياء شرق المدينة، مثل حي البرازيل، وحي السلام، وخربة العدس، ومنطقة الصوفي، وكذلك أحياء وسط المدينة، ومخيم رفح الكبير، وكذلك الحي السويدي، إضافة إلى تدمير الطرق الثلاثة الرئيسية التي تصل مناطق المدينة ببعضها.
وتعيش العائلات المتبقية في مدينة رفح في حالة ترقب دائم للقصف، وتواصل مطالعة السماء للتأكد من عدم وجود طائرات مسيرة أو طائرات استطلاع قريبة. ويقول سعيد الرملاوي (36 سنة) لـ"العربي الجديد" إنه "في حال كانت طائرات الاستطلاع بعيدة، نفهم أن غرضها التصوير، أما إذا كانت قريبة، فيكون هدفها القتل. قتلت طائرات الاستطلاع كثيرين في مدينة رفح، وهي تنافس الطائرات الحربية في كونها أداة للقتل، وقد نفذت مجازر أخيرة في مدارس النازحين، مثل مجزرة مدرسة ذكور النصيرات الإعدادية التي قصف فيها الاحتلال ساحة المدرسة بثلاثة صواريخ من طائرات استطلاع". 

الصورة
غادر غالبية النازحين مدينة رفح إلى خانيونس (عبد الرحيم الخطيب/الأناضول)
غادر غالبية النازحين مدينة رفح إلى خانيونس (عبد الرحيم الخطيب/الأناضول)

يضيف الرملاوي: "نعيش في جوع وعطش دائمين، وفي بعض الأحيان، نخرج في الصباح لنحضر ما يتوفر من طعام، فلا نجد شيئاً، ونتبادل المياه المتوفرة، أو نشتري من بعض الباعة الموجودين في الغرب والشمال، لكن الأوضاع تكون خطيرة للغاية في أوقات المساء، وفي بعض الأوقات، تقوم الطائرات بقتل كل من في الشارع. عشت طفولتي في مدينة رفح، ولي فيها ذكريات سعيدة وأخرى حزينة، ولا أعرف مكانا غيرها. زوجتي وأطفالي في مدينة خانيونس، وهم يعيشون ظروفاً صعبة، بينما أنا مع والدي ووالدتي المسنين. الموت القائم في رفح قائم أيضاً في خانيونس، وفي دير البلح، إنه نفس الموت، ونفس العدو. لا نريد الموت، ونريد أن نعيش حتى نصل إلى حلم التحرير، وأن نعود إلى أراضينا".
ويؤكد الرملاوي وجود عدد من النازحين في مدرسة بحي تل السلطان غربي مدينة رفح، وأنهم من بين العائلات التي فشلت كل المنظمات الإنسانية، بما فيها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" في تأمين أماكن نزوح لهم، وهؤلاء يزداد قلقهم يوماً بعد يوم، خصوصاً بعد تكرار المجازر أخيراً في مدارس وسط القطاع والمنطقة الشمالية.
وتؤكد شهادات من مدينة رفح أن جيش الاحتلال يستهدف جميع المدنيين المتبقين في المدينة ضمن مساعٍ مستمرة لشل الحركة فيها، ودفعهم إلى النزوح. يقول عمر عبد الواحد (40 سنة)، وهو أحد الواصلين مؤخراً إلى منطقة المواصي غرب مدينة خانيونس، إن الجميع في رفح معرضون للقتل، وفي كثير من الأوقات، تقوم طائرات الاستطلاع الإسرائيلية بإطلاق النار باتجاه التجمعات السكنية، كما تستهدف طواقم الدفاع المدني التي تحاول إسعاف الناس أو نقل الجثامين الملقاة في الشوارع، والعديد من العائلات قامت بدفن الشهداء داخل المنازل قبل نزوحها. 

الصورة
وصل نازحون من رفح إلى خانيونس فلم يجدوا مأوى (إياد البابا/فرانس برس)
وصل نازحون من رفح إلى خانيونس فلم يجدوا مأوى (إياد البابا/فرانس برس)

فقد عبد الواحد العديد من الشهداء من عائلته وعائلة والدته، ويؤكد لـ"العربي الجديد" أن جميع شهداء عائلته خلال العملية العسكرية كانوا من المدنيين، وأن الاحتلال يواصل سياسة إحراق المنازل بمن فيها عبر إلقاء القنابل الحارقة، كذلك دمر القصف عشرات المنازل في المخيمات، ومنازل أخرى انهارت بسبب شدة القوة التدميرية للقصف، خصوصا تلك المقامة من ألواح إسبستية أو من الزينكو.
يقول: "كانت مدينة رفح المنطقة الأكثر ازدحاماً في القطاع قبل العملية العسكرية الإسرائيلية، وفجأة أصبحت كأنها مدينة أشباح، وبعد أن كان التركيز عليها كبيراً قبل بضعة أشهر، وكل القوى في العالم تحذر الاحتلال من المساس بالمدينة، وترفض العملية العسكرية عليها. الآن، يتجاهلها الجميع، ولا ينتبه إلى معاناة سكانها. رفح تغيرت بالكامل، فالشوارع الرئيسية مدمرة، وشارع البحر مدمر تماماً". 
ويضيف عبد الواحد: "في الأيام الأخيرة التي سبقت نزوحي، كان عدد من الممرضين يتنقلون بين المنازل لرعاية الجرحى والمسنين، وغالبية هؤلاء لم يتمكنوا من النزوح بسبب أوضاعهم الصحية، كما أن هؤلاء الممرضين رفضوا النزوح من أجل القيام بمهمتهم الإنسانية. أحدهم كان اسمه أحمد الشاعر، وقد استشهد بعد أن استهدفته طائرات الاستطلاع الإسرائيلية خلال محاولته الوصول إلى منزل أحد الجرحى لمتابعة حالته الصحية، وظل جثمانه في الشارع أياماً".
ودمر الاحتلال الإسرائيلي جميع المراكز الصحية في رفح قبل شهر ونصف، كما دمر العيادات والنقاط الطبية الصغيرة التي كانت في المنطقة الجنوبية، وفي شرق مدينة رفح، واستهدف مركز رفح الصحي في وسط المدينة، والمراكز الصحية التابعة لوكالة أونروا، والتي كان أطباؤها يجرون بعض العمليات الجراحية الصغرى، كما أن الاحتلال دمر جميع المرافق العامة حتى يحكم سيطرته على المدينة. 

وحالياً، لا تتوفر سوى نقطة طبية واحدة في شمال غربي المدينة، وهي تتولى حالات الطوارئ، وتستقبل بعض الجرحى والشهداء من المنطقة، وتُنقل الحالات الحرجة إلى منطقة المواصي، حيث يوجد مستشفى ميداني تابع لمؤسسة الإغاثة الدولية، وكذلك المستشفى الكويتي الميداني، اللذان يحاولان التركيز على علاج حالات الجرحى والمرضى المحولة من مدينة رفح.
يوجد الممرض الفلسطيني سليمان أبو جزر في آخر نقطة طبية في مدينة رفح، وهو يواصل ممارسة دوره في إسعاف الجرحى قبل أن يجرى نقلهم إلى النقاط الطبية الأخرى، ويقول إن "معظم الإصابات التي تصل إلى النقطة الطبية نتيجة تطاير الشظايا الصاروخية، التي تنتشر على مساحة مئات الأمتار بسبب شدة قوتها التفجيرية، إلى جانب أن الاحتلال يقوم بقصف المناطق أكثر من مرة في نفس الوقت، ورغم ذلك، تعود بعض العائلات للإقامة في المنازل التي لا تزال صامدة، أو المدمرة جزئياً، لعدم وجود مراكز نزوح". 
يضيف أبو جزر لـ"العربي الجديد": "بعض الناس في مدينة رفح يرفضون النزوح من المدينة، خصوصاً أن رفح كانت الأمل الأخير لكثيرين، رغم أن المجتمع الدولي خذل الجميع، وبعد أن كان يطالب الاحتلال بعدم الاقتراب من رفح، لم يفعل شيئاً حين جرى اجتياحها، والآن، هناك عائلات ترفض النزوح لعدم وجود مأوى في مكان آخر، أو لعدم توفر خيام. دخلت قبل أيام إلى وسط المدينة لإنقاذ عدد من الجرحى، فهالني ما شاهدته، كانت المدينة غريبة بالنسبة لي، كما لو أني لا أعرفها من شدة الدمار". 

المساهمون