في أن سينمائيين عرباً يكتبون نصوصاً أدبية

14 يوليو 2015
+ الخط -
يعبّر سينمائيون عرب عديدون عن هواجس وانفعالات وتأمّلات عبر نص مكتوب أحياناً، سواءٌ أكان رواية، أم سرداً أدبياً لذكريات/ مذكّرات، أم ما يُعرف بـ "مفكّرة فيلم". هذا حاصلٌ في الغرب، علماً أن سينمائيين غربيين لا يكتفون بالكلمة فقط، بل يذهبون إلى الصورة الفوتوغرافية أو الفنّ التشكيلي أو.. تصميم الأزياء. 
يُشكّل النصّ الأدبي الذي يكتبه السينمائي السوري محمد ملص (1945) امتداداً لنصّه السينمائيّ، لشدّة ارتباط الأول بالصورة المعبَّر عنها كتابةً. هذا ينطبق أيضاً على النصوص الشعرية التي يكتبها السينمائيّ اللبناني غسان سلهب (1958) باللغة الفرنسية، كونها تتطابق وأفلامه المشغولة بشعريّة مفتوحة على أسئلة ثقافية وفكرية وإنسانية. بالإضافة إليهما، تأتي الرواية الوحيدة (لغاية الآن) للسينمائيّ اللبناني محمّد سويد (1959) كانعكاسٍ لشوقٍ يعتمل في أعماق الروح والنفس في ذات المخرج، وكمَعْبرٍ يأخذه وقارئه إلى ماضٍ لبنانيّ مندثر. أما الاشتغالات الأدبية الخاصّة بالسيناريست المصريّ الراحل أسامة أنور عكاشة (1941 ـ 2010)، فتستلهم وقائع اجتماعية وإنسانية وثقافية مصرية، معيداً صوغ بعضها بتبسيطٍ مشحون بتحليلٍ معمّق لبنى درامية واضحة ومتماسكة، وغائصاً بها في أعماق ذات ومجتمع وعلاقات. 

أدب أو مفكّرة فيلم 
لن تكون الرواية الوحيدة للسينمائيّ المصريّ رأفت الميهي (1940) شبيهة بالعوالم الأدبية السابق ذكرها أعلاه. فـ "هورجادة، سحر العشق" ("منشورات درويش برس" باريس، 2001) تصدر في كتاب بعد رفض الرقابة المصرية تحويل السيناريو السينمائي الأصلي إلى فيلم. هذا يعني أن إصدارها في كتاب ناتجٌ من عجز كاتبها عن تحقيقها فيلماً سينمائياً، وليس من رغبة لديه في اختبار الكتابة الأدبية كفعل تعبيريّ يوازي بأهميته التعبير السينمائيّ. في حين أن معظم المؤلّفات المكتوبة لمحمّد ملص منتمية إلى ما يُعرف باسم "مفكّرة فيلم"، المتضمّنة ما يُشبه يوميات تصوير هذا الفيلم أو ذاك، بقلم مخرجه. يوميات تتمحور أساساً حول المشروع الذي يتمّ تنفيذه لحظة الكتابة، بعوالمه وتفاصيله وعلاقة صاحبه به، لكنها تذهب إلى أبعد من ذلك أحياناً، أي إلى ما يُشبه التأمّل في المواضيع المطروحة، أو الأسئلة المبثوثة في ثنايا السيناريو. له كتب مرتبطة مباشرة بـ "مفكّرة فيلم": "المنام" ("دار الآداب"، بيروت، 1999) المتعلّق بفيلم وثائقي له بالعنوان نفسه (1988)، و"كتاب الليل" ("دار كنعان"، دمشق، 2003) المتمحور حول فيلمه الروائيّ الطويل الثاني "الليل" (1993)، و"الكلّ في مكانه وكلّ شيء على ما يُرام سيدي الضابط" ("دار المدى"، بيروت ـ دمشق، 2003): كتابٌ/ ذكريات، وعودة إلى ماضٍ يضع لها عنوان فيلم التخرّج (30 د.، 1974) كي يروي مقتطفات من يومياته في معهد السينما "فغيك" في موسكو، علماً أن فيلم التخرّج هذا مكتوبٌ بالتعاون مع الروائي المصري صنع الله إبراهيم (1937)، رفيق الدراسة حينها. 
هذه أمثلة تكشف شيئاً من اهتمامات سينمائيين عرب بشأنٍ أدبي، إلى جانب "المهنة الأصلية" لهم كمخرجين روائيين ووثائقيين، تحتلّ أفلامهم أمكنة واضحة المعالم في المشهد السينمائيّ العربي العام، مع التنبّه إلى اختلافات متنوّعة بين فضاءاتها وأنماط اشتغالاتها وهواجس صانعيها، من دون تناسي اختلاف آخر، متمثّل بانتماءاتهم إلى "أجيال" سينمائية ومراحل تاريخية عديدة. أمثلة تطرح سؤالاً أساسياً: ما الذي يدفعُ هذا السينمائيٍّ أو ذاك إلى الكتابة الأدبية؟ 
في ما يُشبه الردّ على سؤال كهذا، يروي محمّد سويد علاقته بالكتابة النقدية التي يمارسها راهناً بين حين وآخر (وهي جزءٌ من تاريخه السينمائيّ أيضاً). يقول إنه يكتبُ نصوصاً "نابعة أصلاً من الذاكرة البصرية، التي عمادها الأفلام". يُضيف أنه يحاول "التجريب" هكذا، أي أن يتناول فيلماً أميركياً قديماً ويُحوّله إلى ديكور بيروتي: "هناك شيءٌ شخصي حقيقي يدفعني إلى تجربة كتابة نصّ مختلف: بدلاً من أن تكون الكتابة على فيلم ما نقداً سينمائياً، تتحوّل الأفلام إلى شيء مُعاش في المدينة". هذا يؤدّي إلى كتابته رواية "كباريه سعاد" ("دار الآداب"، بيروت، 2004): "لم أخطّط لأن تكون الكتابةُ روايةً بل نصّاً. لم أعرف كيف ستتطوّر هذه الكتابة، ولا أي شكل نهائيّ سيتّخذه هذا النصّ. لم أعرف مسبّقاً إلى أين ستأخذني الكتابة". التجريب في كتابة نصّ يجمع الأدبي بالسرديّ والبصريّ مدخلٌ إلى فهم معنى الاستعانة بالكلمات بدلاً من الصُوَر. أساساً، يصعب على المرء الفصل بين التعبيرين المكتوب والبصري، فاللحظة الراهنة هي التي تدفع السينمائي بهذا الاتجاه أو ذاك. الارتباط بينهما كامنٌ في صاحبهما، وفي هواجسه وتأمّلاته ومشاهداته. 
غالب الظنّ أن غسان سلهب أكثر المعبّرين عن توجّه كهذا: أن يكون النصّ أدبياً صرفاً، بأن يتّخذ من النَفَس الشعريّ مناخاً للتأمّل والمشاهدة والتساؤل، انطلاقاً من هواجس المخرج وعلاقاته بذاته ومحيطه. في "من كتاب الغرق" ("منشورات أمار"، بيروت، 2012. النصّ الأصلي مكتوبٌ باللغة الفرنسية، والكتاب متضمّن إياه إلى جانب ترجمة عربية بقلم ليلى الخطيب توما، والتقديم للناقد الفرنسي جاك ماندلبوم)، تتأصّل اللغة الفرنسية في تعبير شفّاف وعميق عن حكايات تتشكّل بأسلوب ذاتي مرتكز على مقاطع مستقلّة ومتداخلة في آن واحد. مقاطع تروي العالم وتراه، وتبوح عن ذات وتفاصيل يومية. كتاب يؤكّد التزام صاحبه أسلوباً تأمّلياً يريده هنا مترجماً إلى كلمات وسياقات أدبية، شبيهة بصُوَر يصنعها في أفلام روائية طويلة وأخرى قصيرة تجريبية (فيديو)، كمحاولة دائمة للبحث في معاني التعابير والحكايات: تعابير تحفر عميقاً في الوجدان المنفتح على كل شيء آخر، وحكايات تخرج من سياقها التقليدي باتّجاه التنقيب الحثيث في المفردة والجملة عمّا يعكس المبطّن ويكشفه أو يفضحه، أو يحاول أن يكشفه ويفضحه. 

الكلمة امتدادٌ للصورة 
"كباريه سعاد" مرتكزةٌ على اختلاطِ ذاتِ كاتبها ببيئة ومدينة (بيروت)، وبما فيهما من حالات وانفعالات. يغوص محمّد سويد في متاهات الناس ويومياتهم، ويستلّ منهم عيشهم في خراب وموت، أو في معنى آخر للحياة. بأسلوب سلس ومتماسك في سردٍ أقرب إلى متتاليات بصرية، يُقدّم النص الروائي صورة شفّافة عن علاقاته الشخصية بسينمائيين ومقاتلين يلتقون معاً في نصّ يصوغه بلغة آسرة بسلاستها ورهافتها وبساطتها المنضوية على تكثيف درامي للحكايات، وبحبكة توهم قارئها بسينمائيتها، هي التي لا تخلو من أدواتها الروائية. يكسر سويد الحدّ الفاصل بين تقنية الرواية والشكل السينمائيّ، تماماً ككتابيه السينمائيين: "السينما المؤجّلة" ("مؤسّسة الأبحاث العربية"، بيروت، 1986)، و"يا فؤادي" ("دار النهار للنشر"، بيروت، 1996). في الأوّل، يتّخذ المنحى الروائي بُعداً أساسياً في سرد حكاية أفلام الحرب الأهلية اللبنانية؛ وفي الثاني، يُصبح المنحى أعمق في مقاربتين متكاملتين، تروي الأولى سيرة الصالات السينمائية "الراحلة" في بيروت، وتُخبر الثانية حكاية بيروت وناسها أيضاً، من خلال "رحيل" الصالات. هذا كلّه يؤكّد امتلاك سويد نبضاً روائياً في مقالاته وكتاباته، يتوجّها بـ "كباريه سعاد". 
لا يكتفي محمّد ملص بـ "مفكّرة فيلم"، كي يسرد فصولاً من اختبارات سينمائية وحياتية يعيشها في سيرته. المفكّرة ضرورية، لأنها جزءٌ من تأريخ لحظة، وتوثيق انفعال أو ذكرى أو حالة. لكنه يستكمل مشروعه الكتابيّ هذا بالابتعاد قليلاً عن السينما، وبالذهاب إلى النصّ نفسه كمرآة تنعكس عليها وفيها أحواله "وخبرياته" وانفعالاته. في "مذاق البلح" ("منشورات رفوف"، دمشق، 2010)، لا يتحرّر النصّ الأدبي من سمة سينمائية في آليات السرد والتقطيع والتوليف، بقدر ما يرتكز عليها في استكمال رحلة السينمائيّ إلى ماضيه. فالكتاب هذا لا علاقة مباشرة له بأي فيلم من أفلام ملص، بل بفصول من سيرته وذكرياته وهمومه، التي يرويها كمن يُصوّرها، وهو يبوح فيها عن مكنونات نفس وروح وجسد. 
مع "هورجادة" رأفت الميهي، يغوص القارئ في عالم متشعّب من الأحاسيس، عاطفياً وروحياً وجسدياً، ومن تحوّلات تفضي إلى تثبيت معنى أجمل للحبّ. لا رومانسية ولا تحديد اجتماعي ـ إنساني ـ سياحي للغردقة، لأنها رواية عن الحب، وعن تقارب بشري بين مسيحيين ومسلمين. أما في "جنّة مجنون" (سلسلة "روايات الهلال" الصادرة عن "مؤسّسة دار الهلال"، القاهرة، أبريل/ نيسان 2007)، فإن أسامة أنور عكاشة يُقدّم صورة مكثّفة عن علاقة غريبة بين فرد وذاكرته، من خلال الصراع الدائم بين العقل الباطن والوعي. في الأولى، تكثيفٌ لحالة عبر استخدام لغة سردية لاهثة في إسراف المتاهات الإنسانية في توليد غموض أو مبطّن في عوالم أفراد وبيئة؛ وفي الثانية، ضبط صارم لعلم النفس من أجل إتاحة مجال أوسع للسرد في البوح الذاتيّ. 
(كاتب لبناني)
المساهمون